هو الكتاب الأخير الذي ألفه إدوارد سعيد دون أن يتمه أو يراه منشوراً. نشر الكتاب عام 2006 بعد وفاته بثلاثة أعوام وبجهد مشترك بين زوجته وبعض أصدقائه خاصة الناقدين الأمريكي رتشارد بواريير والإنجليزي مايكل وود. لكن الكتاب الذي ترجمه إلى العربية فواز طرابلسي ونشرته دار الآداب تحت عنوان "حول الأسلوب المتأخر: موسيقى وأدب ضد التيار" (2015) لم يكن من النوع الذي يصعب نشره دون أن يكمله المؤلف، لأنه يتألف من مجموعة مقالات ليست مما يكمل بعضه بعضاً وإنما هي قادرة على "الاكتمال" ضمن غلافين. ومثلما هي طبيعة تأليفه ونشره تأتي إمكانية قرائته، فكتب المقالات قادرة على أن تقرأ مفرقة أو متصلة بعضها ببعض، وقد يقرأ بعضها ولا يقرأ البعض الآخر دون تأثير يذكر على المقروء. لكن خلو الكتاب من مقدمة بقلم المؤلف مؤشر على أننا إزاء عمل كان سيصل إلى قدر أعلى من الاكتمال لو قدر لصاحبه أن يلقي نظرة أخيرة عليه نسميها المقدمة، مع أن إحدى المقالات يمكن أن توصف بأنها تؤدي دور المقدمة. يتناول الكتاب قراءة الناقد العربي/الفلسطيني الأمريكي لعدد من الأسماء الكبيرة في عالمي الأدب والموسيقى في الغرب: بيتهوفن، أدورنو، غلين غولد، جان جينيه، كفافي، وغيرهم. وأهمية الكتاب تأتي مما يقوله سعيد حول هؤلاء، لكن تفرده يأتي من كونه يحمل "الأسلوب المتأخر" لسعيد نفسه الذي كان مريضاً يكافح الموت بشكل يومي حين اشتغل على الكتاب. لم يكن بالطبع يدرك أنه لم يكن ليكمله أو يراه منشوراً. كما أنه لم يضمنه تناولاً لأسلوبه هو، على الرغم من أن الكتاب سيرة ذاتية من نوع خاص، سيرة ناقد كبير في تفاعله "الأخير" أو المتأخر مع كتاب وموسيقيين كبار، انطباعاته وعلاقاته الشخصية بهم، الظروف التي جمعته ببعض معاصريه من هم. والمعروف أن سعيد كان عازفاً متمكناً للبيانو وعالماً بالموسيقى على نحو أدهش معاصريه. معظم المقالات تستحق وقفة طويلة إما لطرافة تفاصيلها أو لعمق رؤى سعيد ومن يتناولهم فيها، أو للسببين معاً. تأتي مقالة سعيد حول المفكر والناقد الألماني/اليهودي وعضو مدرسة فرانكفورت تيودور أدورنو (ت 1969) الذي كان سعيد نفسه شديد الإعجاب به في بداية الكتاب كما لو كانت مقدمة للكتاب نفسه، لأن سعيد هنا يوضح المقصود بالأسلوب المتأخر ضمن ثلاثية من المراحل التي يقول إنها مما عني بالبحث فيه هو، أي سعيد، منذ بداية ما يسميه تشكل الشخصية أو الذات. مرحلة الأسلوب المتأخر، مرحلة تاريخية في حياة الكاتب تسبقها مرحلتان، الأولى مرحلة البدايات التي يذكرنا سعيد بأنه درسها في كتابه "بدايات: الهدف والمنهج" في بداية السبعينيات من القرن العشرين. أما الثانية فمرحلة النضج والتي يراها المؤلف في العديد من الروايات الكبرى في الأداب الغربية. تبقى مرحلة "الأسلوب المتأخر" التي يناقشها سعيد من وجهة نظره أولاً ثم من خلال ملاحظات لأدورنو على الموسيقارين الألمانيين بيتهوفن وشونبرغ. يرى سعيد أن كثيراً من الأعمال الأدبية تطرح التقدم في السن من الزاوية المألوفة، أي زاوية الحكمة والتعقل والنظر الهادئة إلى الحياة التي تتقبل ما فيها برضى. ويضرب لذلك مثالاً بمسرحيات لليوناني سوفوكليس وشكسبير كتبتا في أواخر حياتهما، ولكنه يضيف أيضاً أعمال للموسيقار فيردي تطرح زاوية مختلفة. فعلى عكس شكسبير وسوفوكليس نجد في الأعمال الأوبرالية المتأخرة لفيردي، مثل "عطيل" و"فلستاف"، روحاً شابة وطاقة متجددة تشير إلى قمة جديدة في الإبداع الفني. كما أن حالة فردي تشبه حالات أخرى في الموسيقى مثل حالة باخ وفاغنر، وكذلك في الرسم كحالة رمبرانت وماتيس. لكن الأسلوب المتأخر، أو أسلوب الفنانين والمفكرين في أواخر أعمالهم، قد تصل إلى وضع يتجاوز الشباب والحيوية إلى الغرابة المتمثلة في الرفض والتشكيك والمساءلة. والمثال هنا هو الكاتب المسرحي النرويجي إبسن، خاصة مسرحيته "عندما نستيقظ نحن الموتى" التي تعيد النظر في أعمال الكاتب السابقة وتعيد طرح مسائل المعنى والنجاح وما إليهما. المفكر الألماني أدورنو، الذي استعمل عبارة "الأسلوب المتأخر"، استوقفه تغير أسلوب التأليف الموسيقي لدى بيتهوفن في أواخر أعماله، مثل السيمفونية التاسعة وسوناتات البيانو الخمس الأخيرة، قائلاً في مقالة له ضمن كتاب نشر بعد وفاته بعنوان "لحظات موسيقية" إن موسيقى بيتهوفن الأخيرة تظهر فناناً منفصلاً عن مجتمعه، أنه وهو المسيطر على أداته طوال الوقت عاش علاقة متناقضة ومغتربة مع أعماله. "أعماله الأخيرة تمثل نوعاً من النفي". فقد أصيب بيتهوفن في أواخر أيامه بالصمم فعاش عزلة ترافقت من كبر في السن. لكن أدورنو هنا لا يصف أعمال بيتهوفن بالأسلوب المتأخر، كما يوضح سعيد، وإنما هي تلك الأعمال الأخيرة فقط التي تحول فيها الفن إلى وصف لواقع الفنان، أو سجل يوثق وضعه كرجل هرم. فحسب أدورنو، يجب أن يحتفظ الفن بطبيعته الفنية، باستقلاله عن العالم ومنه الموت، لكي يبقى فناً ويحقق "الأسلوب المتأخر": "الأسلوب المتأخر"، يقول سعيد معلقاً، "هو ما يحدث عندما لا يتنازل الفن عن حقوقه للواقع". وفي هذا السياق يقارن أدورنو بيتهوفن بالموسيقار الألماني/اليهودي شونبرغ مقارنة تصب في صالح الأخير. غير أن سعيد يفاجئ قارئه أثناء عرضه لآراء أدورنو بتساؤل يسلط الضوء على تلك الآراء من زاوية مغايرة فيعيد تقييم موقف المفكر الألماني: هل تلك الآراء، يقول سعيد، تعكس واقع من يتحدث عنهم أم أن واقع الأمر هو أن وصف أدورنو لهم هي نماذج ومفاهيم توضح بعض ملامح من كتابات أدورنو نفسه؟ أي هل حولهم أدورنو إلى نماذج لا تمثل من يقيمهم، من أمثال بيتهوفن، بقدرما تمثل مفاهيم أدورنو نفسه في إطاره الفكري الخاص؟ يتضح أن السؤال تعجبي حين يقول سعيد إن أعمال أدورنو في أخريات أيامه اتسمت بالأسلوب المتأخر نفسه وعلى النحو الذي لا يجده سعيد جذاباً. فقد صار ذلك المفكر مثل زميل كبر في السن وبدأ يقول أشياء محرجة لزملائه وتجعل من الآخرين لا يحبونه كثيراً. فإلى جانب ما يميز أطروحاته من صفات نادرة، يأتي الأسلوب المتأخر، بصفات مختلفة تجعل من أدورنو ذلك الرجل الأوروبي المعني بالثقافة والمتقدم في العمر، الحاضر ذهنياً، غير المهتم أبداً بالصفاء المتقشف أو النضج الرقيق. ليس ثمة حرص على الإحالات المرجعية أو الملاحظات الهامشية أو الاقتباسات المتحذلقة، وإنما هناك دائماً قدرة واثقة من نفسها ومتطورة للحديث بنفس المستوى الجيد عن باخ ومتابعيه، عن المجتمع وعن علم الاجتماع. إن إعجاب سعيد بأدورنو واضح وتحليله مدهش وليس من السهل متابعته لمن لا يعرف الاثنين أو السياق الثقافي الأوروبي المتطور إلى حد التعقيد، لكن سعيد أيضاً يتخذ مسافة من أدورنو كما من غيره ممن يشملهم كتابه، مسافة تمكنه من تحليل أولئك ونقدهم حين يكون ذلك ضرورياً، وهو ضروري بالفعل في مقالات أخرى من الكتاب سأعرض لإحداها في مقالة قادمة، وأقصد بشكل خاص مقالته حول الكاتب المسرحي الفرنسي الشهير جان جينيه التي تحمل ذكريات سعيد الشخصية عنه بقدرما تحمل قرائته لذلك الكاتب الشهير الذي عادى الصهيوية وناصر الفلسطينيين ولكنه كان شديد الخروج على المألوف سواء في حياته أو في ما كتب. غلاف كتاب إدوارد سعيد إدوارد سعيد تيودور أدورنو