كان اعلان اتفاق الرياض الأخير خطوة مهمة وجريئة على الطريق الصحيح لمعالجة أزمة أسعار النفط، وعكس هذا الاتفاق رد فعل كبير على المستويين الدولي والمحلي، ولا غرو فإن النفط يعتبر مثل الدماء في جسد الاقتصاد العالمي وعنصراً أساسياً في موازنات الدول المنتجة للنفط خاصة الدول أعضاء منظمة "أوبك" ودول أخرى خارج "أوبك". ومن هذا المنطلق كان الشغل الشاغل لدول "أوبك" عنصرا السعر والانتاج باعتبارهما المصدران الأساسيان لكل الأزمات التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين وازدادت حدة خلال الشهور الأخيرة اذ تدهورت أسعار النفط في الأشهر الثلاثة الماضية لتصل الى أدنى مستوياتها خلال تسعة أعوام. وإذا كان سعر هذه السلعة الدولية الاستراتيجية تعرض في الآونة الأخيرة لهزة عنيفة وصلت به الى حوالى 10 دولارات للبرميل ليسجل أدنى مستوى له منذ أربعة أعوام على رغم الأزمة العراقية والحشود العسكرية الاميركية - البريطانية الضخمة التي كانت تعد لضرب العراق، ما كان يتوقع معه رفع سعر النفط، إلا ان الولاياتالمتحدة ومعها الدول الصناعية ووكالة الطاقة الدولية تمكنت بنجاح من تجيير كل الأمور لصالحها وتدنت الأسعار بشكل يخدم مصالح المستهلكين في غياب كامل لپ"أوبك" وذلك نتيجة الخلافات السياسية والاقتصادية بين أعضائها، مما يذكرنا بانهيار أسعار النفط في منتصف الثمانينات. ولا شك ان هذا الوضع يرجع لعوامل عدة في مقدمتها زيادة أوبك سقف انتاجها بنسبة وصلت الى 10 في المئة، ناهيك عن سلبيات الأزمة الآسيوية التي يتوقع ان يستمر أثرها بضع سنوات قادمة مما دفع بعض مصافي التكرير هناك الى الاحجام عن شراء النفط بالدولار بسبب تدهور قيمة عملاتها. ولا شك ان الوضع الجديد الذي أفرزته الأزمة الآسيوية سيجعل خبراء النفط يعيدون حساباتهم في شأن طلب آسيا من النفط الذي كان يسجل زيادة مستمرة تقريباً تصل ما بين 7 - 8 في المئة في السنوات الأخيرة، فتغير الوضع اليوم وأصبحنا أمام دورات اقتصادية نقلت تلك المنطقة من سنوات سمان الى أخرى عجاف ليبدأ الركود الاقتصادي بالنسبة لآسيا وبالتالي سيتدنى طلبها من النفط، اضافة الى أن اعتدال الطقس في الدول المستوردة للنفط خلال العام المنصرم ترك أثراً ملموساً على الطلب لنفط "أوبك". وفي المقابل زاد عرض الدول خارج الأوبك الى حد بلغ معه الفائض من النفط المطروح يومياً في أسواق البترول العالمية يزيد على الطلب، اضافة الى المخزون الاستراتيجي من النفط لدى مجموعة الاعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الذي يكفي لمدة تصل الى 130 يوماً ويضاف الى ما تقدم دخول العراق سوق البترول طبقاً لقرار مجلس الأمن "النفط مقابل الغذاء" في أوائل عام 1997 عندما سمحت الاممالمتحدة بتصدير ما قيمته أكثر من خمسة بلايين دولار خلال الأشهر الستة المقبلة من هذا العام. ولا شك ان عدم وجود التناغم والتعاون بين منظمة "أوبك" والدول المصدرة للبترول خارج "أوبك" في الانتاج يؤثر في الاسعار هبوطاً وارتفاعاً، فالسوق حالها غارق اليوم من طرفي "أوبك" والدول المنتجة خارج المنظمة النفطية الأمر الذي جعل الأسعار تتدنى الى أقل مستوى لها بعد انهيار الاسعار في الثمانينات خاصة. كما ان خبراء النفط يتوقعون ارتفاع انتاج النرويج بحوالى 220 ألف برميل يومياً وبحر الشمال بحوالى 400 ألف برميل، وكلا الدولتين بريطانياوالنرويج لهما دور مؤثر في مسيرة الطلب العالمي على النفط مع الأخذ في الاعتبار ان الدول خارج "أوبك" وفي مقدمتها بريطانياوالنرويج يُستبعد تعاونها مع "أوبك". توقعات وتتوقع وكالة الطاقة الدولية ان يصل انتاج نفط الدول خارج "أوبك" لعام 1998 الى حوالى 44.6 مليون برميل يومياً، واذا استقرت أوبك على ما توصلت له في جاكرتا بتحديد انتاجها بپ27.5 مليون برميل يومياً فإن السوق ستكون متخمة بأكثر من حاجتها اضافة الى ان بعض المصادر يؤكد ان انتاج المنظمة يزيد بپ500 ألف برميل على السقف المقرر في جاكرتا. وليس هناك بديل أمام "أوبك" سوى الاتفاق لحماية المصالح المشتركة لأعضاء المنظمة، ونحن نذدرك ان هناك مصالح متضاربة داخل "أوبك" وان تضارب تلك المصالح من شأنه ان ينكأ جرحاً عميقاً في قلب هذه المنظمة التي مضى على انشائها ما يناهز 40 عاماً، ومع ذلك فإن مستقبلها يتوقف على القرارات التي تؤثر في السوق البترولية، كما أنها في الوقت نفسه تتأثر بها وجوداً وعدماً. وفي رأينا انه في ظل الظروف الحالية التي تشهدها سوق النفط الدولية ولكي تعود الأسعار الى مستواها في الربع الأول من العام الماضي لا بد ان تعود الدول التي تجاوزت حصصها الى انتاجها المقرر في "أوبك" خاصة فنزويلا. ولا شك ان المراقب لتطورات سقف الانتاج يدرك ان ما حصل في جاكرتا بزيادة الانتاج 10 في المئة كان من أجل دول الخليج اذ ان الزيادة كانت تذهب الى دول اخرى تتجاوز حصصها، والى جانب هذا يجب ان تكون لدى المنظمة خطة بعيدة المدى تتحدد فيها أهدافها المستقبلية إزاء المتغيرات والظروف الموضوعية التي قد تؤثر في شروطها وأوضاعها في القرارات التي تتخذها المنظمة. على رغم كل ذلك، فإن كثيراً من المؤشرات يعطي صورة تبشر بتجاوز الأزمة بأسرع مما قد نتصور، وانه مع تدخل عوامل كثيرة يرجع بعضها الى ارتفاع تكاليف بدائل الزيت الخام والى زيادة حاجات الدول المستهلكة من النفط، هذه العوامل بتدخلها المحسوب في ظروف سوق البترول السائدة ستلعب من دون شك دوراً في زيادة حجم الطلب على البترول بما ينعكس ارتفاعاً في السعر. ولهذا فإن التحرك السريع الذي قادته المملكة ودعت اليه في الرياض وأثمر عن قرار بخفض انتاج السعودية وفنزويلاوالمكسيك بمستوى 600 ألف برميل يومياً ابتداء من أول الشهر المقبل. هذا القرار أتى بنتائج طيبة، ولعل الاتفاق مع هاتين الدولتين بالذات يحمل مغزى خاصاً لأن الاتفاق تم مع احدى الدول المصدرة للبترول من خارج "أوبك" وهي المكسيك، أما الدول الأخرى وهي فنزويلا فهي عضو في "أوبك" لكنها تجاوزت حصصها الانتاجية وتسببت في انهيار الاسعار قبل هذا الاتفاق، ومن هنا فإن الاتفاق الجديد يعني في المقام الأول تصحيح المسار، ولذلك كان له رد فعل سريع، اذ بادرت الدول المنتجة الأخرى الى اعلان تأييدها الاتفاق ومنها الكويت والامارات وقطر وايران وغيرها من الدول لتقليص وسحب الكمية الفائضة من الانتاج بما يراوح بين 1.6 مليون ومليوني برميل من النفط يومياً من الاسواق التي تشهد وفرة في المعروض. وجاءت النتيجة سريعة ومبشرة، اذ ارتفع سعر البرميل أكثر من دولارين في زمن قياسي، ولا شك ان السبب المباشر لهذه النتيجة يرجع الى إدراك الواقع والخطر الذي يتهدد الدول المصدرة للبترول سواء داخل "أوبك" أو خارجها. وهذا كله يدفع منظمة "أوبك" ان تكون أكثر إدراكاً لواقع الأمور وطبيعة المتغيرات التي تتطلب الصمود وإدراك أهمية تظافر الجهود والتنسيق في المواقف والتخطيط للمستقبل على أسس موضوعية لتدخل القرن الواحد والعشرين كمنظمة اقتصادية قوية تقف على قاعدة صلبة في وجه المتغيرات الاقتصادية الدولية خاصة انه في السنوات الأولى من القرن المقبل ستشهد سوق النفط الدولية ظروفاً جديدة لها أبعادها على مسيرة المنظمة عندما تبدأ حقول بحر قزوين تزويد أسواق البترول الدولية بالبترول الذي ينتظره المستهلكون الغربيون بفارغ الصبر، ليمثل لهم اضافة كبيرة الى جانب بحر الشمال والنرويجوفنزويلاوالمكسيك في وقت تتجه الولاياتالمتحدة الاميركية الآن الى أميركا اللاتينية في استراتيجيتها لتغطية حاجتها من النفط. ومن هنا أضحى على أوبك ودول الخليج العربي على وجه الخصوص التي سوف تواجه منافسة شرسة على الاسواق، ان تفكر في مستقبل نفطها وتؤسس الخطط الجادة في تنويع مصادر دخلها وترشىد انفاقاتها الغير ضرورية. والسبل الكفيلة لإعادة التوازن الى السوق النفطي تتركز في آليات السوق والركيزة الاساسية تتمثل في عنصري العرض والطلب العالمي، ولذا فإن الأمر يتطلب دراسة واعية للسوق العالمي للنفط في ضوء آليات السوق لتحديد الحد الأمثل للانتاج الذي يصل بالسعر المستهدف الى مستواه لايجاد سوق بترولية دولية مستقرة.