الحمد لله اولاً الذي أنقذنا من محنة أليمة، ومن مزيد من المآسي الانسانية في المنطقة... وفي العراق. لأن كل عاقل يدرك جيداً ان الضربة العسكرية لو تمت لفتح الباب على مصراعيه امام فتن ومشاكل واضطرابات تضع العالم العربي من جديد على حافة الانفجار وتلقي به الى مصير مجهول. ولم يختلف عربيان خلال الازمة الاخيرة حول الأمل بإيجاد حل ديبلوماسي سلمي وتجنب العمل العسكري حرصاً على الشعب العراقي الذي قاسى الامرّين من الحروب التي زج به في اتونها كوقود وقرابين لخطايا نظام ديكتاتوري وحشي الأداء والممارسات، ومن حصار دام اكثر من 7 سنوات ليدفع ثمناً مضاعفاً لخطأ الرئيس صدام حسين عندما امر بغزو الكويت في آب اغسطس 1990 ورفض كل الوساطات وأصرّ على خوض غمار حرب خاسرة رهن فيها حاضر العراق ومستقبله لعشرات السنين المقبلة رغم إتاحة عشرات الفرص له للإنسحاب والخروج من المأزق الذي اوقع نفسه به وتجنيب العراق المهانة والإذلال وهدر الثروات وإفقار الشعب وتفتيت البلاد من الناحية العملية. فالشعب العراقي هو الذي قاسى وتألم وحرم من الدواء والغذاء ووسائل العيش الكريم. اما النظام فلم يكترث لكل ما تسبب له من آلام وأصمّ آذانه عن أنين الشعب، فراح يبني القصور والاستراحات ويستورد افخر انواع السيارات وأغلاها. بل ان المتابعين لحركة الاستيراد العراقية عن طريق الأردن يتندرون بسخرية مصحوبة بالاشمئزاز والألم بالشحنات اليومية المبردة ما لذّ وطاب من المآكل والمشارب، اضافة الى الألبسة والاحذية وما شابه المستوردة من اشهر دور الازياء الغربية التي تشحن يومياً الى بغداد لتوزع على النافذين بعد ان تختار "الرؤوس" افضلها فيما الطفل العراقي لا يجد دواء ولا زجاجة حليب! وهذه حقائق دامغة يعرفها كل انسان، بل ان بعض القصور الفارهة ظهرت صورها على شاشات التلفزيون عند اندلاع أزمة المفتشين الدوليين فانقلب السحر على الساحر، واكتشف القاصي والداني الحقيقة المرة عن حياة البذخ التي يعيشها رئيسه بعد ان كان غرض الماكينة الاعلامية العراقية التدليل على خلو هذه القصور من اسلحة التدمير الشامل. ولهذا يستغرب المرء كيف يتعاطف البعض مع مثل هذه الممارسات؟ وكيف يسمح انسان بأن يهتف لديكتاتور: "بالروح والدم نفديك يا صدام؟... ولماذا لم يهتف نفديك يا عراق فيكسب الاحترام والتعاطف لأنه لا يجوز ربط مصيرنا وقضايانا بشخص مهما كان وزنه؟ ولا يمكن فهم بعض التظاهرات والبيانات النارية والمقالات التي تركز على وجدانية الشخص وقدسيته وتنسى، او تتناسى كل ما فعله بشعبه وما ارتكبه من مذابح ضد الابرياء. وأيضاً ما فعله بأمته عندما شتت صفوفها وتسبب بإحداث شرخ هائل ينزف دماً من جراح الجسد العربي الذي لا يزال مفتوحاً رغم مرور 7 سنوات على الخطيئة الكبرى. ولا يمكن العثور على اجابة واضحة او حل لهذا اللغز الا اذا رددنا ما يعتقده البعض من ان معظم التحركات كانت مدبرة وان "الماكينة الاعلامية والمخابراتية والمالية لعبت دوراً كبيراً فيها، مع انني اميل الى الاعتقاد الاكثر عقلانية وهو ان العرب لم يتخذوا مثل هذا الموقف شبه الاجماعي من رفض توجيه ضربة للعراق الا حرصاً على الشعب العراقي وحباً له وخوفاً عليه بغض النظر عن عقد الماضي... وان من تظاهر او اتخذ موقفاً في فلسطينالمحتلة او الأردن او مصر وغيرها لم يفعل ذلك حباً بصدام بل كرهاً لاسرائيل، وليس دفاعاً عن الحاكم بل دفاعاً عن الشعب، وليس دعماً لسياسته بل سخطاً من السياسة الاميركية المنحازة لاسرائيل وممارسة "ازدواجية المعايير" بأسلوب فاضح واستفزازي. ولا ألوم فلسطينياً يتظاهر او يهتف لهذا او ذاك وهو يتلقى كل يوم بصدره رصاص الغدر الصهيوني، ويتعرض للجلد بسياط الوحشية المتعصبة والضرب والسجن والاعتقال والتعذيب امام سمع العالم وبصره دون ان يتحرك أحد، على اي مستوى من المستويات لوقف انتهاكات حقوق الانسان، او على الأقل إبداء التعاطف مع الشعب الفلسطيني. وهذا درس يجب ان تتعلمه الولاياتالمتحدة ككل، وليس ادارة الرئيس كلينتون فقط؟ وهو ان صبر العرب قد نفد، وإن كل آمال السلام قد تلاشت وتحطمت على صخرة العناد الاسرائيلي الى ان جاء بنيامين نتانياهو الى الحكم ليطلق "رصاصة الرحمة" على السلام المثخن بالجراح ويتعنت ويتكبّر ويتجبّر ويتحدى المشاعر العربية كل يوم فيما عتاة المتطرفين يستفزون العرب، والفلسطينيين، والمسلمين بالاعتداء على المقدسات وتهديد المسجد الأقصى المبارك والمضي قدماً في اقامة مشاريع الاستيطان الاستعماري في الأراضي العربية المحتلة، وفي القدس بالذات التي تتسارع خطوات مؤامرة تهديدها لفرض الأمر الواقع على العرب والعالم. ولكن هل هناك من امل في ان تستوعب الولاياتالمتحدة الدرس؟ وهل ستسعى لاستعادة مصداقيتها المهزوزة والدفاع عن مصالحها المعرضة للتهديد بسبب تعنت اسرائيل وعدم القيام بخطوات اميركية حازمة للضغط عليها وإيقافها عند حدها ومطالبتها بتنفيذ جميع التزاماتها منذ موافقتها على مبادرة الرئيس جورج بوش وحضورها مؤتمر مدريد للسلام على اساس قرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام وصولاً الى اتفاقات اوسلوالفلسطينية - الاسرائيلية التي نسفت حكومة ليكود كل بنودها وأفرغتها من معناها ومبناها وجوهرها؟ نأمل ان تكون التجربة المريرة الاخيرة قد فتحت العيون في مراكز القرار في واشنطن على واقع المنطقة والعالم ومشاعر الناس العاديين. كما نأمل ان تتخلى الولاياتالمتحدة عن ترددها، وتتخذ مبادرة لاستعادة مصداقيتها المفقودة ودعم مصالحها ووضع حد للجهة الحقيقية التي عرضتها للتهديد وهي اسرائيل. ويا حبذا لو استغلت القيادات العربية، ولا سيما تلك القريبة من الولاياتالمتحدة والصديقة للرئيس كلينتون، الفرصة الذهبية لفتح باب حوار صريح عن اسباب ودروس كل ما جرى خلال الآونة الاخيرة مع التأكيد على النقاط التالية: ان العرب دعاة سلام وليسوا دعاة حرب، وهم قدموا كل ما يمكن ان يقدموه من تنازلات! ان العرب ليسوا ضد الولاياتالمتحدة، رغم بعض المظاهرات وأعمال حرق الاعلام والتصريحات النارية؟ بل يعتبرون انفسهم اصدقاء لشعبها ولا يخفون اعجابهم بما حققته من انجازات وتقدم وكل ما في... "الحلم الاميركي" من مغريات! ان العرب لم يهددوا مصالح الولاياتالمتحدة، بل حافظوا عليها وأمنوها، ولكن اسرائيل هي السبب في كل اسباب التوتر في العلاقات وغضب الرأي العام العربي من "ازدواجية المعايير" وهي التي تعرض المصالح الاميركية في العالم والمنطقة بالذات وبالتالي ايجاد هذه النقمة التي اوجدت صراعاً بين "الحلم الاميركي والظلم الصهيوني". ان الولاياتالمتحدة قبل الازمة الاخيرة كانت مهيمنة على مقدرات العالم، تأمر وتنهى بلا حسيب ولا رقيب كقوة عظمى وليدة في النظام العالمي الجديد، ولكنها، وبسبب "ازدواجية المعايير" وسياستها تجاه اسرائيل فقدت قدرتها على الهيمنة بعد ان تحركت الصين وفرنسا وروسيا للحد منها وتوجيه رسالة صريحة لها تقول: كفى تضرراً فنحن هنا، ولم يعد من المقبول تجاوز ارادتنا ومصالحنا؟ ان تصحيح مسار النظام العالمي الجديد ضروري جداً للولايات المتحدة ايضاً لأنه يتيح لها الضغط على اسرائيل باستخدام ورقة التوازنات الدولية الجديدة والمصالح الحيوية المهددة للولايات المتحدة؟ خاصة وانها بدأت اخيراً في التصريح علناً عن أولية مصالحها القومية وأمنها القومي. ان أي تأخير في مبادرة الولاياتالمتحدة لاستعادة زمام الأمن وإحياء مسيرة السلام في الشرق الاوسط سيؤدي الى كارثة وربما الى اشتعال نار ازمات لن تتمكن من حصر أخطارها في المستقبل. ان على الولاياتالمتحدة ان تقوم بخطوات لكسب الرأي العام العربي ومجاراة المشاعر العربية الغاضبة التي ظهرت جلية اخيراً، وذلك ليس بحملة علاقات عامة فقط بل بإجراءات عملية يشعر فيها كل انسان عربي انه يتعامل مع دولة تحترم خصوصيته وتسعى لمساعدته على استعادة حقوقه ولا تستفزه كما فعلت اخيراً عندما أرسلت 3 مسؤولين يهود الى اوهايو للدفاع عن الضربة العسكرية. وكان منظر الثلاثي غير المرح اولبرايت - كوهين - بيرغر ملفتاً للنظر ومثيراً للانتباه، ولا ادري اذا كان مجرد مصادفة، او خطوة غير مدروسة. أم انها كانت مقصودة ومعدة بإحكام "لغايات في نفس يعقوب"!! أما على صعيد الامة العربية، فرُبّ ضارة نافعة فقد عادت لأول مرة اللحمة بين الشعوب حتى بدت وكأنها موحدة المشاعر والاهداف بعد جمود وجفاء استمر عدة سنوات رغم اختلاف وسائل التعبير عن الرأي واسلوب العمل. ومع ان العرب من المحيط الى الخليج كانوا مع الحل السلمي، وضد الضربة العسكرية الا ان الواجب يفرض علينا ان نسمي الاشياء حتى لا يقرأ الرئيس صدام حسين ونظامه الموقف قراءة خاطئة كعادته ويعود الى ممارساته السابقة. فهو الذي افتعل الأزمة، وهو الوحيد القادر على انهائها، وهو الذي تسبب بهدر الثروات العربية وهو الذي سهّل تحقيق المطامع الاجنبية ووصول الاساطيل واقامة القواعد. والازمة الاخيرة لم تكن الاولى، ولن تكون الاخيرة ما دام الرئيس صدام حسين في السلطة، وما دام يخدم المصالح الاجنبية ويستخدم كمخلب قط ضد الدول المجاورة بعد ان ادى "قسطه" للولايات المتحدة التي تدّعي انها ستقضي عليه ثم تبشره بطول سلامة. وبكل اسف فإن "الماكينة الاعلامية" للنظام العراقي، كما دل اعلانها عن الاتفاق الذي توصل اليه مع كوفي انان الامين العام للامم المتحدة، صورت ذلك الاتفاق على انه انتصار كبير ونصر عظيم للنظام مع ان الواقع يدل على عكس ذلك فقد تنازل عن كل ما كان يرفضه. كذل تراجع هذا النظام عن معارضته لعمل لجان التفتيش الدولية، وزاد عليه سماحه لها بتفتيش قصوره ومواقعه الرئاسية التي كانت محظورة عليها وتسوّق على انها رمز للسيادة والكرامة الوطنية والشرف الرفيع، مع ان هذا الشرف اهدر عشرات المرات من قبل. ولا فرق بين قصر رئاسي ومدرسة او مصنع للشعب، فكل حبة تراب يُفترض ان تكون مُحصّنة ومحمية ولا يجوز انتهاك حرمتها وليس القصور الرئاسية الفارهة فحسب. ومن لا يحسن حماية شرفه والدفاع عن عرضه لا يمكن ان يسمي ما يقدم عليه انتصاراً. وهذه سلبية عربية قديمة تبناها الرئيس صدام حسين فحوّل غزو الكويت الى "أم المعارك" وحوّل الهزيمة المريرة التي لحقت به على انها النصر المبين، وهكذا في كل مرة يتراجع فيها عن مواقفه ويتخلى عن "السيادة والمبادئ" تتحرك الماكينة الاعلامية والسياسية على امتداد الوطن العربي للترويج للنصر وتطبّل وتزمّر للنصر المزعوم، تماماً كما جرى في هزيمة حزيران يونيو 1967 عندما اطلقوا عليها اسم "نكسة" ثم حوّلها البعض الى نصر كبير ليس لأن شرف الامة قد هُدر، وأراضيها قد احتُلت، ومقدساتها في القدس وغيرها قد انتُهكت، فهذا امر غير مهم بالنسبة للغوغاء، بل لأن "النظام" قد صمد ولأن "الامبريالية" لم تستطع اسقاطه! ومع هذا فان الاتفاق يعتبر بداية لما يمكن ان يشكّل "شعاع النور في نهاية النفق" لعل محنة شعب العراق النبيل تنتهي فتعود اليه كرامته ويتم ايجاد حلّ عاجل لرفع الحصار المفروض عليه. اما اذا استمرت عقلية المقامرة والمغامرة وسياسة الترويج للنصر المزعوم فان من غير المستبعد نشوب ازمة جديدة خلال وقت قريب يتنازل فيها العراق عن "ورقة التوت" الاخيرة او يتعرض لمؤامرة التقسيم والتفتيت المبيّتة فتتعمّق محنة الشعب العراقي اكثر واكثر وتزداد آلامه ومعاناته لا سمح الله.