دخل الضابط بلباسه الكاكي الداكن، وقد نُقش اسمه فوق الجيب الأيسر لقميصه، وفوق الاسم طُرّز العلم الأميركي. كان منظره مهيباً، لكنه يذكّر أيضاً بالأفلام. اما نظراته فجعلت كلاً من الحاضرين يشعر بأنه واحد من "دزينة القذرين"، فهو لا يحترمهم، وبالتأكيد لا يودهم، لكنه معتاد العمل مع امثاله /امثالهم ، ومفتخر بأنه يصنع من المجرمين أبطالاً، وفي حالته هذه تحديداً انه مدعو ليصنع من الارهابيين رجالاً سويين من صنع الپ"سي. آي. اي". كانوا مجموعة من رجال الأمن الفلسطينيين انتدبوا للتدرب لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية على "مكافحة الارهاب". قبل خمسة أعوام كان هؤلاء الرجال، ومثلهم عشرات بل مئات الآلاف، ارهابيين في المعايير الأميركية. وحتى هذه اللحظة لا يزالون ارهابيين طالما انهم لم يتلقوا بعد جرعات التربية الفضلى. انهم يعتقدون ان سلطتهم الوطنية ارسلتهم الى هذه القاعدة فى العمق الأميركي، بموجب اتفاق خاص مع الأميركيين. والواقع ان وجودهم هنا يدين لتعاون بين "سي. آي. اي" و"موساد" وأحد الأجهزة الفلسطينية التي يصعب تعدادها. رجال الأجهزة الأخرى متنوعو الخبرة، بعضهم يتحدر من علاقة "الاخوة والصداقة بين الشعوب"، أيام العهد السوفياتي السابق، وبعض آخر من اتفاقات متنوعة عربية وأوروبية. لا شك في ان التلاقح الثلاثي، الأميركي - الاسرائيلي - الفلسطيني، سيثمر كائنات استخبارية مختلفة، على طريقة الاستنساخ المختلط بين أجناس متنافرة. تحدث الضابط بلطف وبساطة، وبلا تكلف. وللإنصاف، كان أقرب الى التهذيب والرزانة منه الى بذاءة عساكر الأفلام. قال: ستخرجون من هنا بخبرة أقوى دولة في التاريخ. انسوا ماضيكم، انتم منذ الآن لا تنتمون اليه، سترون ان كل ما عشتموه من قبل انما كان كذبة، سيحسدكم شعبكم على النعمة التي هبطت عليكم أخيراً. ومنذ الآن سيكون ولاؤكم للجهاز وليس لأحد آخر. اعتبروا انفسكم محظوظين، فقد وصلتم الى هنا بموافقة الموساد، وتعلمون كم ان ذلك صعب، ثم بموافقة السي. آي. اي. وتعلمون كم ان ذلك أصعب. انا شخصياً لو التقيتكم في الشارع لقبضت عليكم جميعاً. سحناتكم تكفي لإنبائي بنيّاتكم، فحيثما تكونون لا بد انكم تدبرون عملاً ما ضد الولاياتالمتحدة الأميركية او اسرائيل. دعوني أقول لكم كلمة يُمنع عليكم منعاً باتاً ان تنسوها: اسرائيل هي نحن، ونحن اسرائيل، وانتم هنا عندنا، كل التخاريف التي صنعتموها لأنفسكم عن نضالكم ضد اسرائيل يمكنكم ان تلقوها في أول مزبلة تصادفونها. انتم فلسطينيون، أقرّ لكم بذلك، ولكن ماذا يعني؟ تذكروا دائماً، ليس مهماً من أنتم المهم ماذا تستطيعون ان تفعلوا… اترككم الآن مع مدربيكم، وسنلتقي لاحقاً. غرق أفراد المجموعة في صدمة ما سمعوه، لكن المدرب أعادهم شيئاً فشيئاً الى الواقع، إذ راح يشرح برنامج العمل. سيُقسمون الى ثلاث مجموعات. واحدة لمكافحة الارهاب، وأخرى لجمع المعلومات وثالثة للاستجواب. لكنه طمأنهم الى ان كلاً منهم سيتلقى كل الخبرات ليكون جاهزاً لأي عمل تقتضيه الحاجة. وعلى سبيل التمهيد قال لهم: تعرفون جميعاً ان الارهاب آفة هذه الحقبة من التاريخ، وهو تفاقم لأنه استفاد من الأسلحة والتقنيات الحديثة، سيكون لكم شرف الانخراط في مكافحته لأن كل الدول الكبرى باتت الآن جبهة واحدة ضد الارهاب، وأنتم لا دولة لكم، إذن انتم تتمتعون بامتياز مضاعف، أولاً لأنكم ستعملون ضد الارهاب، ثانياً لأنكم تتدربون في أميركا. ثم انكم محظوظون، لماذا؟ لأنكم لن تجدوا صعوبة في التعرف على الارهابيين، انظروا الى بعضكم بعضاً للتأكد مما أقول. ثم انكم غير مدعوين للعمل بعيداً عن بيوتكم وبلداتكم. فالارهاب عندكم. منكم وفيكم. يكفي ان يجتاز واحدكم عتبة بيته داخلاً او خارجاً حتى يرى الارهابيين أمام عينيه، فما عليه عندئذ سوى مكافحتهم. كيف؟ هذا ما ستتعلمونه هنا. ولكن، انتبهوا، لن تستطيعوا العمل إلا إذا تغيرتم، وستتغيرون بلا شك. كيف؟ هذا شغلنا. وفي أي حال لن يتمكن أي منكم من العمل إلا إذا نجح في دورات التدريب بشهادة السي. آي اي. والموساد. باشرت مجموعة "المكافحة" دروسها. وكان من الطبيعي ان يبدأ المدرّب بالأسس. وأولها هو "الوضوح"، أي يجب ان تعرفوا الهدف. الارهابي هو العدو. يجب ان تعرفوا العدو وإلا تعذّر العمل ضده. "من هو العدو؟" سأل أحدهم، الذي أجاب ببداهة: اسرائيل طبعاً… كاد المدرب يستشيط غضباً لولا ان الأمر يتعلق بالدرس الأول، لكنه فضل مقارعة الحجة بحجة: طبعاً، طبعاً لا، انت هنا لأن قيادتك وقعت على السلام مع اسرائيل، سلّمت بوجودها وأمنها وارتضت بحكم ذاتي في اطار دولة اسرائيل. الارهابي هو عدو السلام، وكل من يعارض الاتفاقات ويعمل على اسقاطها من العرب او المسلمين عموماً… وقبل ان يعترض متدرب آخر، تابع المدرب: ستقول لي ان هناك اسرائيليين يعملون ايضاً ضد السلام، وستحدثني عن المستوطنين وميليشيات الشين بيت، وأنا أقول لا شأن لكم بهم. هؤلاء حلفاؤنا وستكون انت حليفهم بمجرد ان تنجح في الامتحان… إذن، نحن متفقون على ان الارهابيين هم عرب ومسلمون، انبهكم خصوصاً الى الايرانيين. سندرس بالتفصيل مواصفات هؤلاء الارهابيين، وخلال التمارين العملية سيكون عليكم ان تبرهنوا على معرفتكم المخزونة لهذه المواصفات ومدى استيعابكم لها. لا تنسوا انكم تعملون ضد عدو، وبالتالي فلا مجال للتردد او لخيارات بينَ بين… تقتلونه او يقتلكم. دهش أفراد مجموعة "جمع المعلومات" مما دعوا اليه للنجاح في مهمتهم. عليهم ان يوظفوا أي شخص متاح، قريب او بعيد، نسيب او حبيب، أخ او شقيق، لمعرفة أكبر كمّ من المعلومات عن "حماس" و"الجهاد" و"كتائب عزالدين القسام" وسائر الفصائل الفلسطينية وامتداداتها في مختلف الدول العربية، والأشخاص العرب وغير العرب الذين يعملون معهم. واستفهم أحد المتدربين: هل علينا ان نتجسس على "فتح"، فنحن منها؟ أجاب المدرب: لا، لستم من "فتح"، انتم من الجهاز، لم يعد لكم أي انتماء حزبي. تابع المتدرب: والدي من "فتح" واثنان من اخوتي مع "الشعبية" وأختي قريبة من "الديموقراطية"، اما أخي الأصغر فاجتذبه الاسلاميون، وحارتنا تهتف أحياناً لياسر عرفات وأحياناً أخرى للشيخ أحمد ياسين… قاطعه المدرب: المهم ان تقتنع وتقرر ان هؤلاء جميعاً، بغض النظر عن علاقتك بهم، ارهابيون معلنون او ارهابيون كامنون، مهمتك هي توظيفهم ليخبر كلٌ منهم عن الآخر. انتم ستشكلون جهازاً متقدماً ومعبراً عن مرحلة جديدة ومجتمع جديد ممنوعة عليه السياسة اطلاقاً، بالكاد يُسمح له بالصلاة شرط ألا يسيّسها، جهازكم هذا يمكنه ان يستعين بملفات الاسرائيليين، فأنتم تعملون عندهم في نهاية المطاف، لأن مكافحة الارهاب هي هدفهم لكي يستطيعوا العيش باطمئنان، وإذا اطمئنوا يدعون الفلسطينيين يعيشون بأمان. الدرس الأول في مجموعة "الاستجواب" تحول حديثاً في الذكريات. إذ بادر المدرب تلاميذه بالدخول الى صلب الموضوع: نعرف انكم جميعاً تعرضتم للاعتقال عند اصدقائنا الاسرائيليين، لذلك لن يكون عسيراً عليّ ان ألقنكم وسائل الاستجواب. كلكم مررتم في التجربة. الآن يساعدكم الحظ بالانتقال الى الموقع الآخر. الشخص الذي تستجوبونه هو العدو، ينبغي ان تكونوا جمعتم عنه معلومات كافية، الهدف الآن هو اعترافه بأشياء محددة، عملية تفجير، أسلحة وقنابل مخبأة، الشبكة التي ينتمي اليها، أفرادها وقائدها وارتباطاتها… تعرفون بلا شك ان لا شيء يمكن الحصول عليه من دون تعذيب. الاستجواب يعني التعذيب، ولقد خبرتم جميعاً هذه التجربة ومعلوماتنا انكم ظلمتم لكن الضباط الاسرائيليين مظلومون أيضاً لأنهم اضطروا الى تعذيبكم. تذكروا دائماً ان لا شيء شخصياً بينكم وبين المستجوَّب، انكم تؤدون مهمة، ولا مكان للعواطف. لقد وفّر لنا التقدم العلمي والتقني وسائل خارقة للتعذيب من دون احتكاك فوري ومباشر بالشخص المستهدف. سندربكم على كل هذه التقنيات، وسترون ان معظمها يمكن ان يتم بالريموت كونترول، ولن توسخوا ايديكم. لكن ضعوا في حسابكم انكم ستؤدون أكبر خدمة لأبناء شعبكم، فبدلاً من ان يتولى تعذيبه ضباط اسرائيليون تلوث الفضائح سمعتهم وسمعة اسرائيل في الخارج، ستقومون انتم بهذه المهمة. أكثر من ذلك، لن يعود الاسرائيليون ليقحموا انفسهم في شؤونكم، فإذا ما أرادوا استجواب أحد الشبان لمعرفة أين يخبئ الحجارة قبل ان يرميها على العساكر فما عليهم سوى ان يشعروكم برغبتهم فيكون عليكم التنفيذ. وستكون الكاميرات جاهزة لتصوير وكر الحجارة وقد اقتحمتموه وهتكتم سرّه... كل ذلك بفضائل الاستجواب.