تفاجئنا المجموعة الأولى للشاعرة التونسية آمال موسى، "أنثى الماء"، الصادرة أخيراً عن "دار سراس للنشر" في تونس، في غير صعيد: تفاجئنا في تناولها الغنائي العالي لعالمها الشعري في وقت نتحقق في غير مجموعة شعرية، هنا وهناك، من خفوت الغنائية أو انصرافها الى تمتمات خفيضة تحيد بها عن إعلاء الصوت بما يشجيها ويؤنسها ويبكيها. تفاجئنا في نبرتها التوكيدية التي لا ترضى عن التعريف الأكيد والواثق سبيلاً الى تعيين حمولات الشعر، فيما نرى قصائد غيرها تمعن في التشكيك، وتنصرف الى الانكفاء في زوايا المعاني، وتتردد بين اليقينيات. وتفاجئنا في نزعتها "النسوية" التي قلما عرفناها مشبوبة ومتوقدة على هذا المنوال في شعر السنوات الأخيرة. وأول ما يبادرنا في جملها الشعرية إمساكها المباشر، بل إعلانها لأحقيتها في قول الشعر، في قول ذاتها، وعلى نحو مبرم في توكيده العالي، بل النرسيسي: "ما أشدَّ اكتمالي ما أعمق عشقي بلوري نفيس...". إذ ننتبه منذ أبياتها الأولى الى أن المتكلم فيها يصرف القول على نفسه، في ما يشبه مديح الذات وإغداق الصفات عليها. لا بل نتحقق في غير قصيدة من أن المتكلمة في قصائدها تطلق القول على أخرى، فيها، تستحق أجمل النعوت و"أشعرها"، إذا جاز القول. كما لو أن بإمكان المتكلمة أن تجد الوقت والمكان والمقام المناسب لكي ترى الى غيرها فيها، فتتحقق من جمال ما ترى، في لعبة المرايا. كما لو أننا أمام كائنين، واحد شعري وآخر جسدي أحياناً، فيتحقق الأول من جمال الثاني" أو أننا أمام كائنين، فعليين في بعض الأحوال، يعشق الواحد الآخر في لعبة "حلولية" تظهر فيها أحوال التساكن والتوحد: "أحمُلني فوق أناملي أحمُلني على صهوة أحداقي ألتفُّ بجلدي قماطاً أُعانقني شوقاً إليَّ أُبارك تدفقي، تلاطمي أحضنني في صدري ألثم هاتين اليدين المخضوبتين بشِعري". ولا تتوانى المتكلمة في أبيات أخرى عن النظر الى جسد الأخرى فيها، الى جماله، فتعرض لكتفيه، لخصره، لنهديه، ليديه، لساقيه: كيف لا وهي تتحدث في قصيدة عن "أناي الجميلة"، وعن "أناي الكثيرة"! لا بل نراها تتساءل، وهي تعي أحوالها المخالفة لغيرها، ما إذا كان هذا أو ذاك من البشر قادراً على "تحملها"، وتلك عن "الاستئناس برفقتها"، طالما أنها "غير قابلة للاختزال". غير أننا لا نحتاج الى طي الصفحات وتقليب القصائد واحدة تلو الأخرى، والوقوع على العبارة التالية "أنثى في أنثى أنا"، لكي تتأكد من أن المتكلمة جعلت من "الأنثى" موضوعاً لهذا الشعر. وهو ما تصرح به حتى عند عشقها لغيرها، سواء كان الرجل أم الشعر: "لي شاعر من أجله استفقتُ ليلاً، لأنسج بيت قصيد لي ولستُ لأحد". ومع ذلك فنحن لا نتوانى عن الانتباه، في قصيدة تلو قصيدة، من أنها تسعى الى تعريف نفسها، هويتها، الشعرية والانسانية. ذلك أن الإكثار من تتالي الصفات القيمية على أوجه النفس وأفعالها، ومن إرجاع كائنات الطبيعة وأعمالها، اليها، مرة تلو مرة، قصيدة بعد قصيدة، لا يخفيان أبداً الإكثار والإرجاع مسعى لاهفاً لاهثاً الى التسمية، الى التعيين، وإن كان يأتي مبرماً، منزلاً، واثقاً في لصوقه على ما يقع عليه، بل في كونه طبيعته التي كانت تائهة واستقرت أخيراً. هكذا تقيم القصائد في تنازع قلما يميل الى التباين والتخالف، بل الى التعايش التكاملي، إذا جاز القول، بين أنثى وأنثى، بين دورين فوق خشبة القصيدة الواحدة، بين كونها سيدة القصر وكونها جاريته كذلك، بين المتكلمة الشعرية وبين الأنثى، موضوع الشعر. ذلك أن المعنى لا يتيه، بل يبتعد فحسب، ثم يعود فيلتئم ويكتمل في ما سعى خارجه أو خالفه. كذلك فأن المعنى واحد، أكيد، متحقق في اسم علم، في قيم معنونة بأل التعريف، فلا يزيغ المعنى، ولا يقبل الكثرة أو التباين. وإذا ما نادى المتكلمة طارىء من خارجها، أو هددها عامل مفاجىء، أو عاشق، تتنبه دوماً الى أن بإمكانها إجراء فعل أخير: "دعني أتذوقني قبل أن أُلتهم". هكذا تمضي المتكلمة في جادات المعاني الى طلب الألفة والتود والقران مع "الأنثى" وهي هوس المعاني والدلالات العابر للقصائد كلها، ومع "الجنون" "كاهنة الجنون أنا"، "أنثى الجنون أنا"، "ذات الجنون أنا"...، ومع الشعر "للشعر أتودد"، "يا أيها الشعر/هذه قصائدي/ تطرق مملكتك/ تطلبك/لباساً"...، ومع "التيه" "التيه شيمتي"... وغيرها مما يحلو التعويل عليه والنسج على منواله في بعض الشعر العربي الحديث. تفاجئنا مجموعة آمال موسى، إذ أنها تقبل على الشعر بثقة عالية ونبرة "استبدادية" بالمعنى الجمالي، هي التي تقول في عنوان إحدى قصائدها: "العاجزة من لا تستبد". وهي، الى ذلك، تتجنب أو تتمنع عن قول "نسوي" سردي أو شعري متداول ومكرور، يقوم على الشكوى، وعلى ندب الحظ المنكود، وعلى جعل الأدب عريضة اتهامية ليس إلا. وتنصرف بدل ذلك الى قول بهيج، فيه شيء ولو شفيف أو خفيف من الشهوة المقتصدة والعامرة في آن. هذه المجموعة مترعة بنشوة الشعر، في ذاته، في فعله، في ممارسته، في قدرته على المصادرة، على التعيين، على الاحتفاء بنفسه في القصيدة، في الكون بين البشر والموجودات وعامراً بها في آن. وهي نشوة احتفالية، غنائية، عالية، تعيدنا الى مناخات "أغاني مهيار الدمشقي" لأدونيس، في إقبال الشاعر على الكون إقبالاً حلولياً، على أنه هو الذي يمحض الكائنات والموجودات وجودها وصفاتها، فيما هو يستقيها منها. وهذه المجموعة متغاوية في قولها الذي يلتف حول نفسه، في هوس نرسيسي، نتحقق فيه من أن الحب واقع في ما يغدقه المتكلم على غيره، لا في الحبيب. واقع في صورة المتكلمة المنعكسة في المرآة، طالما أننا قلما نرى وجهاً غيرها، ونسمع صوتاً غير نشيدها. وفي هذا الشعر بعض ما خبره نزار قباني في بعض شعره. مجموعة آمال موسى تفصح عن نبرة "نسوية" جديدة قد تصدم الكثيرين من "الذكوريين" العرب، في الشعر وغيره، ولا سيما في إعلانها الإفتتاني بكل ما يصدر عنها وما تفعله. ذلك أنه في حساب بعضهم لا نصيب للمرأة إلا ما كتب الرجل لها، في أي شأن من شؤونها، بخلاف ما هو عليه حساب آمال موسى لنفسها، ولغيرها معها. تعلن موسى نرسيسيتها في الشعر وبالشعر، وهي في ذلك تؤكد حق المرأة في أن يكون لها خطابها كما يحلو لها أن يكون، وبمنأى عن الرجل حين تشاء أو يطيب لها ذلك.