الكتاب: "قبر قاسم" المؤلف: قاسم حداد الناشر: دار الكلمة - المنامة 1997. أية تسمية نطلق على "قبر قاسم يسبقه فهرس المكابدات تليه جنة الأخطاء"، للشاعر البحريني قاسم حداد ؟ هل نطلق عليه تسمية الديوان طالما أنه يحوي غير "كتاب" كما يفيد العنوان نفسه، ويشير اليه عدد الصفحات الكبير، وكما تفصح عنه سنوات الكتابة التي تتوزع بين تواريخ عدة؟ أم نطلق عليه تسمية المجموعة، أو المجموعات الثلاث المضمومة في كتاب؟ أم نطلق عليه تسمية الكتاب الشعري ليس إلا، الذي يختلف عن الديوان والمجموعة في آن؟ لنا أن نسوق هذه الأسئلة وغيرها أيضاً، لو شئنا بعد أن تحققنا من وجود اختلافات في التصور والصنع، ماثلة في اجتماع قصائد الشعر الحديث بين دفتي مصنوع طباعي. فلقد باتت للشاعر طرق مختلفة في جمع القصائد، وتنضيدها في كتاب، مختلفة عما كان عليه جمع الشعر في العهد القديم، أو حتى منذ المنتصف الثاني للقرن الماضي مع دخول الشعر عهد الانتاج الطباعي وما استتبعه ذلك من وضع عناوين للمجموعة الشعرية أو للقصائد. وسببُ هذه الملاحظات إقدام الشاعر حداد على نشر نصوص كتبها في العام 1989، أو بعده، من دون أن ينشرها منذ ذلك الوقت، أو يضمنها أحد كتبه الشعرية وغيرها التي صدرت منذ تلك السنة وحتى تاريخ نشر كتابه الجديد هذا، ما يعني أن له سياسة في النشر، حتى لا نقول في الشعر. فما السياسة هذه؟ سعى الشعراء العرب الحديثون، قبل صنيع قاسم حداد ومعه، الى طريقة من اثنتين في جمع الشعر: طريقة الموضوع، وهي اشتمال القصيدة الطويلة، أو عدد من القصائد، أو استمدادها المعاني من مجال أو موضوع واحد وهو ما نلقاه في القصائد المطولة، أو في اجتماع قصائد كتاب تحت عنوان واحد، قد لا نجده في أي من عناوين القصائد. أو الطريقة الزمنية، وهي تجميع الشاعر قصائده المكتوبة في فترة زمنية بعينها، واجداً فيها مادة كافية وذات جودة فنية للطبع. وقد نجد في كتب الشعر نتاجات تجمع بين الطريقتين هاتين في صناعات الكتاب الشعري. وما يعنينا من هذه الملاحظات هو التنبه الى كون الشاعر "صانع" كتب، له فيها طرق في التوضيب والإعداد والعرض، تستند الى الشعر وحساباته الخاصة طبعاً، إلا أنها تستند أيضاً الى حسابات خارجية عليه كذلك. غير أن التحقق من الأمر هذا يقودنا الى أسئلة أخرى ذات طبيعة أخرى: كيف تنتظم القصيدة الواحدة؟ كيف يلتم شملها في الموضوع والمعاني؟ كيف تتحقق وحدة القصيدة؟ بل أية وحدة هي هذه؟ ذلك أن تجارب الشعر العربي الحديث - ومنها تجارب حداد التي تربو مجموعاته الشعرية على العشر - عرفت طرقاً وتحققات مختلفة لاجتماع الموضوع والمعاني في بناء شعري، منها: القصيدة الطويلة، أو التي تجنح الى الطول، ولا سيما في قصائد الاستلهام الأسطوري المعروفة منذ الخمسينات خصوصاً. أو القصائد ذات المباني الدرامية، المسرحية وغيرها. أو القصائد القصصية ذات البناء السردي المتوزع والمتدرج والمنغلق تبعاً لانتقالات السرد نفسها. أو القصائد المجموعة على حالة نفسية تنقضي بعرضها... الى غير ذلك من التحققات التي انتهت مع أغراض الشعر التقليدية، وقادت المعنى في مسالك شتى. هكذا تنشأ القصائد وفق علاقات ميسرة أو مدبرة مع موضوعاتها، مع ما دعاها الى الانفعال والتفكر والانتظام في كيفيات تمكننا من التحقق من مجسمات الموضوعات في تحققاتها الشعرية. هكذا نتبع القصيدة في تدرجات وانتقالات قابلة للتبين، وإن غير نسقية أو منتظمة. وهكذا تكون للقصيدة هيئة مبنى تحيل الى خارجها الذي يشكل مواد معانيها. ففي قصيدة "الأصدقاء هناك"، في الكتاب الجديد، نعاين وجود علاقات بين المتكلم وغيره، بين زمانه وزمانهم، وفق تلاحقات من المعاني والحالات قابلة للتتبع والتدرج في آن، وهو ما يبدأ بالقول التالي: "أصدقاء ... يهبون صوفاً للصيف وثلجاً للشتاء"، وما ينغلق على القول التالي: "أجساد فتية عارية، حيث لم يكتمل الصوف للصيف/ولا الغبطة للشتاء". إلا أن القصائد والصياغات والتحققات هذه لا تغيب عن بالنا، ولا تخفي وجود قصائد أخرى لا تعينها موضوعاتها مثل الشاغل الاجتماعي في وجهه السياسي، والشاغل الفردي في وجهه الحميمي، ولا أشكال علاقاتها المحفوظة مع مصادرها، وإنما كونها قصائد "المتكلم المحض" في المقام الأول، على ما نذهب الى القول. فنحن نتحقق في عدد من القصائد، ولا سيما في الكتاب الأول "فهرس المكابدات"، من وجود صور وخيالات خارجية أو عامة تجمع شواغل الشاعر بغيره، في مبنى القصائد، كما وجدناها في القصائد ذات الإحالات البينة المذكورة أعلاه، إلا أننا نجد الإحالات هذه تصدر عن، أو يصادرها بالأحرى متكلم محض: لا يعود هذا الأخير ناطقَ القول الشعري، ولا الناظر الى موضوعات الشعر، أو متولي تأويلها، بل هو الى ذلك كله ميدان الشعر الذي يجرب فيه هويته، بل يعرض فيه صورته عن نفسه أو دعواه لها، أو تعيينه لدوره وأفعاله. هذا المتكلم المحض يعين صيغة جديدة في الشعر ليس لنا أن نراها في صيغ الفخر، أو التباهي القبلي، أو أنا الفحولة خصوصاً في تعبيراتها الأعلى، مع المتنبي. بل هي صيغة جديدة تحكي انبثاقاً أو خروجاً من دورة الأهل والجماعة والبلاطات القديمة، ومن دوران المعنى على منواله التقليدي، ليكون للشاعر القدرة على التسمية والتعيين، وأن يكون عنوان القيم. وتجتمع في هذه الصيغة كيفيات شديدة التداخل والالتباس من الانفعال والاعتقاد، من التجربة وإبلاغ الرسائل، من المعايشة وصياغة الرؤى. والشاعر في الأحوال هذه يغزو المعنى أكثر مما يكابده، يسميه أكثر مما يستقيه، ويعلنه على الملأ أكثر مما يتحقق منه: "جالسٌ هناك/يرى المستقبل". تصدر هذه القصائد عن رغبة في الإرسال، وهو ما نتأكد منه في جمل تميل غالباً الى أن تكون جملاً فعلية ذات استعارية عالية يتحقق فيها المتكلم أو ينوجد في الفعل المضارع. وهو ما يعطي المعنى عدم اتساقه في العديد من الأحوال: فوحدة القصيدة لا تتحقق في متن معانيها، أو في أشكال تدرجها أو تراكمها أو تعاقبها، وإنما في ميدان الذات المتكلمة، في قدرتها على القول، بل على اجتراحه. وهو ما يجعل اللغة كوناً في ذاتها، كافية مستكفية إذا جاز القول، تفيض دوماً عن موضوعها، حتى لا نقول أن علاقتها بموضوعها علاقة ثانوية، إذ أنها هي التي تستجمع الموضوع، لاحقاً طبعاً، على أن ما تعرضه يسبق غالباً أي قصد واع ومدبر. غير أن الانبجاس هذا ينطلق من سجلات لغوية يتم التدقيق فيها لاحقاً، وتنقيتها بالتالي، وليس لها مع الكلام الساري، أو كلام التجارب والمعايشات، صلات توليدية أو تجديدية. وهي سجلات لغة "فصيحة" في كيفية ما، أو تنحو الى نحت فصاحة جديدة، بمعنى أنها تستأنس وتستخلص من الكلام ما تعينه على أنه الصالح للشعر، واللائق به، وحده، من دون هذر الكلام أو فتاته أو ركيكه. وهو لذلك شعرٌ يستقي بعض مواده من تعريفات أو تعيينات متداولة عن "الحداثة" أو "النص" وما أقوى حضوره في مفردات القصائد، ومن تصورات ثقافية وإيديولوجية عن الشعر والشاعر، تجعل الشاعر داعية في المقام الأول، والشعر دعوى لنفسه كذلك. هذا ما عرفه أدونيس منذ نهاية الخمسينات مع سان-جون برس، وهو "أن الشعر لغة" في الأساس، بل شكلٌ، أي ابتعاد بالتالي عن أغراض الوصف والحكمة والغزل وغيرها، أي عن كل ما يستجمع المعنى قبل لبوسه اللغة والشكل على أن الكتابة "تثبيت" له في كلام. وهذا ما يدعو أحياناً الى التساؤل: ما يجمع القصيدة الواحدة؟ ما يعين بدايتها أو تدرجها؟ من يعين نهايتها؟ ومن أين تتأتى نهايتها؟ وهي في ذلك تشبه اللوحة الحديثة: من يقول للفنان أن لوحته انتهت؟ وهل نهايتها تعني اكتمالها أم وصولها الى توزان وتحقق مقبولين، مستساغين؟ من أين تنهل القصائد هذه موادها؟ أمن قدرة الإنشاد والإبلاغ؟ أمن طاقة جسدية على القول، مثل قدرة المنشد الفيزيائية؟