لا مراء في أن قارئ قصائد «شقائق نعمان الحيرة» ( منشورات المتوسط 2017) تربكه عين الشاعر أمجد ناصر التي اختارت نصوصها بعناية فائقة، وتدخله في حيرة لا نهائية، ولعل المتأمل يدرك حجم هذه الحيرة التي يتعمدها الشاعر حتى في العنوان، ذلك أن شقائق النعمان التي كانت تنبتها بقع الدم النازفة من قدم عشتار وهي تبحث عن تموز قبل أن تنزل إلى العالم السفلي، وعن طريق قبلتها الآسرة تبث الحياة من جديد في الربيع، ويتحقق الصعود إلى العالم العلوي. وهو الصعود نفسه لكن في بلاغة الكتابة التي تصل إلى مستوياتها القصوى، لتصبح الحيرة متجاورة مع تصور خاص يتحقق في شقائق النعمان وسط حقل الشعر في امتداداته نحو ممكنات جمالية يوسع أمجد ناصر حدودها من أجل الإقامة في شعرية مفتوحة تعمل على هدم كل التصورات الجاهزة للكتابة الشعرية العربية الحديثة، وبالتالي بناء خيط ناظم بين النصوص التي اختارها بعين بصاصة عارفة بقصيدة النثر كوعي جمالي كوني مفارق. وهو ما يظهر في شكل جلي في النصوص التي تم انتقاؤها من المجاميع الشعرية الآتية: «مديح لمقهى آخر»، و «منذ جلعاد كان يصعد الجبل»، و «رعاة العزلة»، و «وصول الغرباء»، و «سرَّ من رآكِ» و «مُرتقى الأنفاس» و «كلما رأى علامة»، و «حياة كسرد متقطع». يجد القارئ نفسه مواجهاً بعدد من الأسئلة التي عليه أن يعثر لها عن إجابات مقنعة، وبخاصة منها التي لها علاقة بالحدود بين الأجناس الأدبية أو انفتاحها مع غيرها. وأذكر من بين هذه الأسئلة ما يأتي: هل الذي نلاحظه في هذا العمل الشعري كتابة تعد جنساً أدبياً ينحصر في القصيدة المختارة فقط، أم هي أكثر من هذا، تقبل أن تحتوي أجناساً أخرى ليست بشعرية، أم هي ساحة مفتوحة على أجناس كثيرة ومختلفة بوعي شعري مربك للنظرية النقدية السائدة، فلا يطغى فيها واحد منها على البقية الأخرى؟ وقد نستطيع القول أيضاً متسائلين: هل لا تملك بلاغة هذه الكتابة أوصافا تؤهلها لأن تتأطر داخل جنس واحد ؟ ربما كان للسؤال الأخير أهمية فائقة، لأنه يذكرنا بقضية النص بالمعنى الذي يعني عدم قبول الكتابة في العمل التأطير داخل جنس أدبي بعينه؛ أي القصيدة الشعرية المنفتحة. غير أننا لا نستطيع غض الطرف، أو تجاهل كون الكتابة الشعرية في هذا العمل توظف المكون السردي وتجعل منه مرآة مخاتلة ترى نفسها فيها وفق شعرية الأثر المفتوح. المكون السردي يعمل الشاعر في بناء هذه الحدود الجديدة من طريق استثمار المكون السردي في قصائد العمل، وذلك باستخدام اللغة الشعرية، والميل نحو المجاز، وتشكيل الصورة الشعرية بكل ألوانها. هذا مما لا يخفى على القارئ، بينما يقلقه أن يرى التعبير الشعري يكتسب صوغاً مختلفاً، وهذا الصوغ يظهر في الاعتماد أكثر على المكون السردي بكل حيثياته في بناء القصيدة، وبناء شكلها، وبناء أسئلتها الجمالية. ويتضح هذا المكون في بناء الوصف بوصفه تقنية من تقنيات القصيدة أيضاً. يقول الشاعر: «ببلوزتها الزرقاء نصف الكم التي تكشف زنديها المبرومين اللذين تنط منهما فهود صغيرة وبقدمها التي تتحرك تحت الطاولة على شكل مروحة». هذا الوصف لا يبنى هنا حسب مواصفات الصورة في الشعر التي تغلب المجاز، وإنما حسب الهاجس السردي، الذي ينقل إلينا مظهراً من الجسد، وعلى رغم هذه الملاحظة يكون من الجيد التلميح إلى المزج بين الوصف الذي هو من طبيعة سردية، والصورة الشعرية التي تعتمد على التصوير البلاغي (الفهود- المروحية)، حتى أننا نستطيع أن نقول إن الجزء من الوصف السردي الواقعي يمهد للجزء الذي يتعلق بالوصف الشعري. ويتجلى أيضاً المكون السردي في الاعتماد على عنصر الحكاية. ويظهر لنا هذا المكون في قصيدة «فتاة القصيدة». وتبنى الحكاية وفق سرد أفعال غير عادية، أفعال لا تشبه ما نقوم به عادة في الواقع، وفي الحياة، أفعال استثنائية غير مألوفة لنا. ويتجلى هذا من فعل المجيء إلى المكتبة، هذا الفعل في الواقع يعني دخول المكتبة من أجل القيام بفعل القراءة، أو تصفح الكتب، أو استعارة الكتب، أو ما يقرب من ذلك. وهذا الفعل العادي هو ما سماه عبدالرحيم جيران بالحبكة الواقعية، أي طبيعة الأفعال كما تجري في الواقع والحياة، وكما نفعلها جميعا، محترمين القواعد والقوانين حين نفعل أي شيء. نشير أيضاً إلى قضية أخرى، وهي تتعلق بنقل الغياب كما اقترحه عبدالرحيم جيران في كتابه «علبة السرد». ما معنى نقل الغياب؟ يقصد به نقل ما وقع وتم في الماضي. هذه الخاصية تهيمن على جل قصائد العمل، وتعطينا الانطباع بأن لغة الأنا الشعرية الغنائية تمارس نقل الغياب من طريق نقله إلينا نحن القراء في الحاضر، ويظهر هذا واضحاً في اعتماد ضمير الغائب (هو)، أي ما تحكي عنه القصيدة. أي أن القصيدة تحكي أكثر من اعتمادها على الوصف، أو أنها تنقل إلينا بعض الخصائص التي تميز شيئاً، أو موضوعاً ما. ومن الخصائص التي تلفت الانتباه في العمل، استمرار الحكي من قصيدة إلى أخرى، بمعنى أن الحكي لا ينتهي بانتهاء القصيدة، بل يستمر في القصيدة التي تأتي بعدها مباشرة، ما يعني أن قصيدة ما تكمل قصيدة أخرى في طريقة الحكي، وفي الموضوع الواحد، أي أن القصيدة تكون جزءاً من قصيدة غيرها. كما هو الأمر في قصيدة «أكل الشوكولاتة في المكتبة العامة»، فهي تعد جزءاً من القصيدة التي تأتي بعدها، والتي لها كعنوان «الشخص الآخر». ويصح أن نعد ذلك نوعاً من التقديم والتأخير، بمعنى أن القصيدة الثانية تسبق على مستوى الحدث القصيدة الأولى. ويبين لنا هذا التأخير والتقديم- إضافة إلى ما قلناه- مسألة أخرى تتجلى في التناوب الذي نلاحظه بين ضمير «الأنا» (المتكلم= السارد= الشاعر) وضمير «هو» الذي ينقل في حالة غياب على مستوى السرد في القصيدة الأولى، فضمير «الأنا» في قصيدة «شخص آخر» يتحول إلى ضمير «هو». وهكذا يتحول الضمير إلى موضوع للسرد. يؤدي هذا التحول إلى انقسام في الضمير إذ يتحول إلى ضميرين. هذا الانقسام يحول الذات المكتملة- الساردة إلى ذات أخرى. وبالتالي يستمد عنوان القصيدة من هذا الانقسام الذي يظهر أيضا في قصيدة «طريقة أردنية». إن هذا الانقسام يقوم على ما يفاجئنا، بحيث نصطدم بما لم نكن ننتظره، أي أنه يخون أفق انتظارنا. وتظهر هذه الخيانة الجميلة في مفاجأة القارئ، ومفاجأة الأنثى التي تحكي عنها القصيدة. وقد نعد ذلك خداعاً لعين القارئ وعين الأنثى. ويظهر هذا الخداع في تكذيب ما تراه عينها «فقلت: لست أنا». إن انعكاس صورة الأنا في القصيدة (ضمير المتكلم) على المرآة هو ما يجعل المرأة مرئية. وتمتح شعرية الحدود في هذا العمل من تقنية الوصف الذي يتيح لضمير المتكلم- السارد بإنشاء المجازات. فهو يمكن من التقاط الأشياء في صفاء الشعر، وفتنة الحكي، وفي التقائهما كما لحظة منسربة من الزمن. كما تقاطع طريقين: طريق الشعر بمجازاته وهو يسند الوصف، وطريق الحدث وهو يصبغه بلون الحدث، بلون الزمن، بنتف من الذاكرة وهي تستعاد من قبل الأنا (الشاعر- السارد)، هو- إذاً- بهاء الامتزاج، وبلاغة التقابل كما يبنيها محمد بازي، ويؤثث بها صرحه البلاغي. القصيدة واللعب يلعب الشاعر أمجد ناصر مع القارئ وساطة الكلمات، كاستعمال الجناس والطباق، وكل الأشكال التي يوفرها له فن البديع، لكن السرد يلعب مع القارئ بواسطة الحكاية، وكيف يستغلها ليخدع القارئ، ويفاجئه بما لم يكن في حسبانه من توقعات. ويظهر تأثر القصيدة- في ديوان أمجد ناصر في مستوى اللعب مع القارئ- في استخدام الحكاية لكي يحقق هذه المهمة. ويقدم لنا نص «منديل السهروردي» مثالاً جيداً لفهم هذا الاستخدام الفني. كيف يتم ذلك؟ وبأية وسيلة؟ وبأية طريقة؟ ما اعتبرناه سبباً مقنعاً في تقديم حكاية «السهروردي والراعي»- أي اليد المقطوعة التي تتحول إلى منديل- ليس في حقيقة الأمر سوى نهاية للحكاية الرئيسة أو الحكاية الأم بتعبير آخر، والتي هي حكاية «السهروردي والراعي». ويظهر اللعب في عملية التقديم والتأخير، فالحكاية الرئيسة تم تأخيرها، وقدمت بدلاً منها الحكاية التابعة لها «حكاية اليد المقطوعة». وهذا التقديم والتأخير هو نوع من اللعب، وإضافة إلى ذلك هو مسؤول عن توفير السمة الشعرية للنص. فهذه السمة لا تظهر في استخدام الوزن أو الصورة الشعرية، بل في التصوير الشعري الذي يستغل التقديم والتأخير الذي توفره الحكاية. وهذا التصوير يولد غموضاً، وهذا الغموض ينتج عن إدخال العجيب في بناء الحكاية. فمنذ البداية يجد القارئ نفسه أمام الصورة التي توفرها حكاية اليد المقطوعة، والتي تصيبه بالحيرة، ويقف عاجزاً عن فهمها، أو وعن حل الغموض الذي يحيط بها. هذا الغموض يوضح فقط حين تقدم لنا الحكاية الرئيسة، أو الحكاية الأم. والنهاية التي تنتهي بها هذه الحكاية هي التي توفر لنا هذا الوضوح. والذي هو منتج للغموض من عنصرين: اليد والمنديل، ولفهم هذين العنصرين في شكل واضح نحتاج كقراء إلى الحكاية الرئيسة. فعندما أمسك الراعي بذراع الشيخ «السهروردي» انفصلت عن جسده، فتركها وعمه الذعر. بعد ذلك يلتقط الشيخ ذراعه، ثم يرجعها إلى موضعها في جسده. أما المنديل الذي تحولت إليه اليد في الحكاية الأولى فهو منديل آخر كان يمتلكه الشيخ. وتتجلى من خلال حيلة اللعب أيضاً كما لاحظناها في نص «منديل السهروردي»، وفي نص «في ضريح ابن عربي» في تحول المنديل الحريري الذي كان في مطرح الفتاة إلى ورقة من كتاب، وما هذا الكتاب سوى كتاب ابن عربي «دخائر الأعراق في شرح تراجم الأشواق». ولا يجوز الوقوف عند الإشارة إلى هذا اللعب في الكتابة بوصفها خاصية نصية، من دون الإشارة إلى كونه في النصين معاً يرتبط بشخصيتين صوفيتين مشهورتين، وبالمنديل. وهذا التكرار له علاقة بالإشارة من حيث هي رمز. والرمز في الصوفية رئيس، وله أكثر من تأويل.