منذ قرابة مئة عام أحدثت أوبرا "كارمن" ضجة كبيرة لدى عرضها للمرة الأولى في باريس. النقاد هاجموها كونها غير أخلاقية، والجمهور المتأنق إستهول ظهور عامة القوم في عمل أوبرالي، ناهيك عن الموسيقى ذات الإيقاع السريع، نسبة الى ما كانت عليه الأوبرا في بواكيرها. إلا أن كارمن عاشت الى يومنا الراهن ودخلت في سياق الأعمال الفنية الخالدة. وهي مأخوذة عن قصة قصيرة للكاتب الفرنسي ميريميه، حوّلها بيزيه الى أوبرا، وتحوّلت مع الزمن الى السينما والمسرح، وعرفت مئات الأداءات المختلفة، لما في حكايتها الأصلية من بوهيمية وحبّ عاصف. إلا أن فرقة "هيليكون" الروسية المؤلفة من 72 فرداً بين موسيقي ومنشد وتقني وضعت "كارمن" في واجهة الاعمال الأوبرالية المعاصرة، وعشية وصولها للمشاركة في فندق "البستان" ضمن مهرجانه الخامس، حازت على اثنتين من جوائز القناع الذهبي، الموازية روسياً لجوائز أوسكار. حاز القناع الذهبي مخرجها الشاب 31 سنة ديمتري بيرتمان، ومنشدتها الأولى ناتاليا زاغورينسكايا التي لعبت دور كارمن. المصادفة جعلت تقديم "كارمن" في "البستان" اللبناني حدثاً عالمياً. وتجاوب الجمهور المتعطش الى الفن الرفيع في إقبال حاشد بعدما قرأ في الصحف وسمع في الإذاعات ومحطات التلفزة عن وصول الفرقة الضخمة ومعها 1540 كلغ من الحقائب والألبسة والأدوات، يرافقها وزير الثقافة الروسي إيغور بوغاييف، زائراً لبنان للمرة الأولى. ولكن ماذا فعل ديمتري بيرتمان بأوبرا كارمن كي تلقى مثل هذا النجاح الذي عرفته في أوروبا وأميركا، ومع "البستان" في الشرق الأوسط؟ عكس بيرتمان واقع الشارع السفلي في روسيا، ما بعد انهيار الشيوعية، وهو واقع متعولم، ينافس في عنفه ودمويته الواقع المافيوي في أميركا. الديكور نصف سيارة محطمة. عجلات. صندوق قمامة. رأس ثور معلّق على جدار. والملابس أسمال مما يرتديه أفراد العصابات ورجال الشرطة وأشباه النبلاء. بل إن الأزياء كلها قاربت ما يعتمده مخرجو الكوميديا ديل آرتي للهزء والسخرية. ورافق ذلك أداء متحلل، متهتك، أرعن، فوضوي، تخللته معارك بالسكاكين وكتابات "غرافيتي" على الجدران، ومجون في الشوارع. غير أن نجاح "كارمن" كما تقدمها فرقة "هيليكون" يكمن أولاً وأخيراً في المستوى الفني الموسيقي والمستوى الحرفي العالي لمنشديها. زاغورينسكايا، تشبه نجمة من هوليوود، وتجعل المشاهد ينسى منشدات الأوبرا السمينات، قليلات الحركة. فهي زئبق يتطاير على المسرح، ولصوتها صفاء الينابيع الذائبة من أعالي الثلج. فاديم زابليشني في دور دون خوزيه وإيغور تاراسوف في دور إسكاميلو كانا صادحين ومناسبين في المظهر، بقدر ما كانت الأدوار الأخرى. قال جاك تيبيري، عمدة باريس، لدى مشاهدته هذا العرض في موسكو "إنها أجمل كارمن رأيتها في حياتي". وجمهور "البستان" في اليومين الأخيرين، ضمّ تصفيقه الداوي الى قافلة المعجبين.