وصل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو الخميس الماضي الى مدريد في زيارة رسمية لاسبانيا تستغرق 24 ساعة، في اطار جولة في أوروبا يحاول خلالها "تطويق" محاولات الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات استغلال الموقف الناتج عن اجبار العراق على تنفيذ قرارات الأممالمتحدة التي ترفض اسرائيل الالتزام بها، مما يكشف عن وجود خلل وازدواجية في السياسات الغربية عموماً والأوروبية خصوصاً. ودفع الأمر بعض المسؤولين الأوروبيين الى مراجعة مواقفهم، والمطالبة باستغلال المناخ الناتج عن هذه المواقف التي شهدتها الأممالمتحدة في الأسابيع الأخيرة، ودفع عجلة "السلام المحتضر"، وانقاذه من نهاية مفجعة بسبب مواقف حكومة الليكود المتعنتة. عبر عن هذا الموقف وزير الخارجية الاسباني ابيل ماتوتيس في تصريحات صحافية سبقت زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي الى مدريد، حين أكد ان الفرصة سانحة الآن لدفع اسرائيل الى تنفيذ القرارات الدولية، حتى لا يشعر العرب بأن مواقف أوروبا تتصف بالازدواجية مما يزيد موجات العداء ضد الغرب، ويمنح المتطرفين فرصة لإستغلال المواقف الناتجة عن هذه الازدواجية في تنفيذ قرارات الأممالمتحدة لزرع المزيد من القلاقل في منطقة الشرق الأوسط. يبدو ان نتانياهو يشعر بهذه المواقف التي تعتبر جديدة بالنسبة الى اسرائيل، لذلك قبل ان يصل الى مدريد سبقته تصريحاته الصحافية التي يؤكد فيها على العديد من القواعد التي تعتبرها الحكومة الاسرائيلية من "الثوابت الأساسية" في سياستها التي لا تحيد عنها مطلقاً، أولها ان الذين ينتظرون انسحاباً اسرائيلياً الى حدود 1967 "حالمون" ولا يتعاملون مع الواقع، أو يعيشون في زمن غير الزمن الذي تعيشه اسرائيل، لذلك من الثوابت المرتبطة بهذه القاعدة الاسرائيلية رفض قيام أي "دولة فلسطينية مستقلة" في أي مكان من الأراضي العربية المحتلة، لأن قيام تلك الدولة ستكون "بداية للفوضى في منطقة الشرق الأوسط". ولا ينسى ان يثير الرعب في قلوب مستمعيه من الأوروبيين من خلال تخويفهم من قيام دولة فلسطينية مستقلة، لأن الاستقلال الفلسطيني يعني انه يمكن لهذه الدولة ان تعقد اتفاقات دفاع مشترك مع "ايرانوالعراق"، ما يعني السماح لوجود قوات لتلك الدول على الحدود الاسرائيلية، وهذا ما لن تسمح به اسرائيل مطلقاً، لذلك على الأوروبيين ان ينتبهوا الى هذا، وعلى الفلسطينيين ان يقنعوا بما حصلوا عليه حتى الآن. وأيضاً من تلك الثوابت التي أكد عليها نتانياهو في المقابلة التي نشرتها صحيفة "الباييس" الاسبانية يوم وصوله الى مدريد، ان اسرائيل تملك الحق في اقامة المستوطنات في أي مكان من الأراضي التي تقع تحت سيطرتها، لأنها في رأيه "أرض بلا شعب"، وان المستوطنات التي يتم اقامتها الآن، أو التي يتم التخطيط لاقامتها في المستقبل تقام في مناطق "خالية من السكان"، وليس من حق أي قوة على وجه الأرض ان تمنع اسرائيل من العيش في أرض ليس لها مالك. ويؤكد رئيس الوزراء الاسرائيلي ان من يتهم اسرائيل بعدم تنفيذ اتفاقات اوسلو الأولى والثانية لا يعرف الحقيقة، ويهدف الى نشر دعايات مغرضة ضد اسرائيل، لأن بلاده على حد قوله نفذت ما التزمت به طبقاً لنصوص تلك الاتفاقات، وانسحبت من أكثر من 90 في المئة من الأراضي الفلسطينية. ويعيش الفلسطينيون الآن تحت ادارة وطنية خاصة بهم، اما ما تبقى من الأراضي التي لم تنسحب منها اسرائيل ليست الا اراضي خالية من السكان، مما يجعلها مشاعاً عاماً للاسرائيليين، والمطلوب الآن ان ينفذ الجانب الفلسطيني تعهداته تجاه اسرائيل المنصوص عليها في الاتفاقيتين، والخاصة بالحفاظ على أمن الشعب الاسرائيلي. لذلك فهو يؤكد على ان ما تبقى هو التوصل الى الحل النهائي من خلال مباحثات ثنائية بينه وبين عرفات، على غرار "كامب ديفيد" التي وقعها الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن، ويرفض نتانياهو وجود أي رقابة على هذه المباحثات، وان كان يمكنه ان يسمح بوجود أميركي. وتنفيذاً لهذه النقطة الثابتة في السياسة الاسرائيلية يرفض نتانياهو ان يكون لأوروبا أي دور في المباحثات مع الفلسطينيين، ويرفض رفضاً تاماً ان تكون لأوروبا يد في أي شيء يتعلق بهذه النقطة، لأنهم - في رأيه - يجهلون الواقع الذي تعيشه المنطقة، وأعلن ان "أوروبا تعيش في زمن الاستعمار القديم، ولم تتنبه بعد الى ان العالم تغير"، ويرجع الموقف الأوروبي الى ان الأوروبيين لا يزال ضميرهم يؤنبهم من ما فعلوه بالمستعمرات التي وقعت تحت ايديهم لفترة من الزمن، ورأى ان العالم كله "جاهل" بالواقع الاسرائيلي، ولا يوجد من يفهم هذا الواقع سوى الأميركيين. ويفسر تفهم واشنطن لمطالب اسرائيل، لأنها تعيدهم الى أيامهم الأولى عندما وصلوا الى "أرض بلا شعب" في العالم الجديد، واستعمروها وبنوا عليها الولاياتالمتحدة، لذلك فهم يتفهمون احتياجات شعب اسرائيل الذي "استعمر أرضاً بلا شعب" ليقيم عليها وطنه القومي. وحتى لا يفقد نتانياهو تعاطف أوروبا معه، فإنه وعد بدور لها في منطقة الشرق الأوسط في "لعبة السلام". ويتمثل هذا الدور في مساعدة اسرائيل على الانسحاب من جنوبلبنان من خلال اقناع لبنان وسورية بأهمية قبول المبادرة الاسرائيلية في هذا الشأن، ولا ينسى في هذه الحالة ان يؤكد على ان هذا الانسحاب يجب ان يكون مقروناً بالسماح لاسرائيل بالحصول على احتياجاتها من الماء في تلك المنطقة. ولم ينس رئيس الوزراء الاسرائيلي ان يرد على الاعلام الأوروبي الذي يعتبره "متعاطفاً مع الفلسطينيين"، فيقول ان هذا الاعلام لا يعيش الواقع، لأنه يحاول ان يضع على قدم المساواة الشعب الاسرائيلي المعرض للأخطار من كل جانب مع "الفلسطينيين" الذين يعرضون أمن اسرائيل للخطر. وجاءت زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي الى اسبانيا في ظل موقف رسمي اسباني يحاول التقليل من الآثار السلبية الناتجة عن اعلان رئيس الوزراء الاسباني خوسيه ماريا ازنار دعمه للموقف الأميركي من العراق، وموافقته المسبقة على استخدام القوات الأميركية للقواعد العسكرية في بلاده لضرب العراق حتى لو لم تسمح الأممالمتحدة بذلك، مما جعله يتعرض لانتقادات شديدة شملت كل الأحزاب السياسية والقوى الشعبية، وحتى شباب الحزب اليميني الحاكم أعلن عن معارضته لموقف الحكومة التي تنتمي الى حزبه، واعتبروا موقف رئيس الوزراء لا يتفق مع الشرعية الدولية، ويسيء الى العلاقات مع الدول العربية التي ترتبط باسبانيا بعلاقات اقتصادية مهمة. على المستوى الاعلامي هناك شعور متزايد من الاستياء بين رجال الاعلام الاسباني بسبب رسالة نشرها سفير اسرائيل لدى اسبانيا في صحيفة "الباييس" يتهم فيها بعض الصحافيين في تلك اليومية بالعداء للسامية، وهو الاتهام التقليدي الذي تلجأ اليه اسرائيل كلما وجدت مواقف تنتقد سياساتها تجاه الفلسطينيين. وعلى رغم انه لم يتورع عن اتهام العرب بأنهم يحاولون تدمير بلاده بهذه الدعايات المغرضة، فإن الرد الوحيد على رسالته كان في "بريد القراء" من خلال رسالة موجهة الى "رئيس تحرير الصحيفة" من شاب عربي ينتقد السفير الاسرائيلي، ويطالبه بالتوقف عن اتهاماته الممجوجة التي تحاول اتهام الآخرين بالعداء للسامية كلما وجهوا انتقاداً للسياسات الاسرائيلية، ويختم الشاب العربي رسالته متحدياً السفير الاسرائيلي بقوله: "انا سامي الأصل، واذا كان انتقاد السياسة الاسرائيلية في رأيك عداء للسامية، فإنني أفخر بأنني عدو للسامية التي تقصدها".