يُنتظر أن تُستأنف، غداة احتفالات السنة الميلادية، المشاورات بين الديبلوماسية الأوروبية وبعض الأطراف العربية الفاعلة في أزمة الشرق الأوسط من أجل احتواء أخطار التصعيد في القدس وحولها، من ناحية، والسعي من ناحية أخرى، إلى تفادي وضع الولاياتالمتحدة في الزاوية بعد عزلتها في مجلس الأمن وخيبة مندوبتها نيكي هيلي في محاولة ابتزاز أعضاء المجموعة الدولية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث صوّتت الأغلبية لرفض قرار الرئيس ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وتمهّد الديبلوماسية الأوروبية لاستضافة رئيس فلسطين محمود عباس حيث يعقد اجتماعاً مع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في 22 كانون الثاني (يناير) 2018. وتعكس الدعوة حرص دول الاتحاد الأوروبي اتخاذ موقف متوازن بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. وكان وزراء خارجية دول الاتحاد استضافوا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في اجتماعهم السابق في 11 كانون الأول (ديسمبر) في بروكسيل. وعقّب ديبلوماسي رفيع المستوى أن نتانياهو «دعا نفسه، لأن أصل الدعوة لم يصدر عن الممثلة السامية في الاتحاد فيدريكا موغريني وإنما من طريق وزير خارجية ليتوانيا. ووجدت الديبلوماسية الأوروبية أمام واقع لم تتمكن من رفضه. وبدافع التوازن، قررت دعوة الرئيس عباس في الاجتماع المقبل». وتميز الموقف الأوروبي، فور صدور قرار الرئيس ترامب، بالوضوح حيث جدّدت الممثلة السامية الأوروبية التأكيد على أن «الحل الواقعي الوحيد» لإنهاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني يتمثل في التوصل من طريق المفاوضات إلى حل إقامة دولتين وأن تكون القدس عاصمة لدولتين على أساس حدود عام 1967. وفي الأثناء يتمسك الاتحاد «بالوفاق الدولي حول الحفاظ على الوضع القائم في القدس» في انتظار نتائج مفاوضات قضايا الوضع النهائي. وتعتقد فيدريكا موغريني أن قرار الرئيس ترامب «قد يؤدي إلى عواقب مخيفة وربما يعيد المنطقة إلى مرحلة أشد ظلاماً ممّا تعيشه». ويعتبر الموقف الأوروبي القدسالشرقية أرضاً محتلة وجزءاً من الضفة الغربية. وجددت فيدريكا موغريني بنبرة غير متردّدة في حضور رئيس الوزراء الإسرائيلي ثوابت الموقف الأوروبي ومحدّدات الحل السلمي. ونصحت في مؤتمر مشترك مع بنيامين نتانياهو صباح الاثنين 11 كانون الأول 2017 في بروكسيل أن «مصلحة إسرائيل الأمنية تقتضي إيجاد حل دائم للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي». ورد عليها نتانياهو بإبراز دور إسرائيل «في حماية أوروبا» من المنظمات الإرهابية التي تخطط لاستهداف الأوروبيين. وأضاف متجاهلاً مقتضيات القانون الدولي والإجماع الدولي ضد قرار الرئيس ترامب، بأن «واقع القدس عاصمة لإسرائيل لا يحيد عملية السلام عن مسارها بل إنه يجعل السلام ممكناً» وأضاف أن «منطلق استئناف عملية السلام هو الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وكذلك بيهودية دولة إسرائيل». دعم الدول الشرقية لإسرائيل وتوقع بنيامين نتانياهو «اعتراف كافة الدول الأوروبية وأقله أغلبيتها بالقدس عاصمة إسرائيل». لكن موغريني خيّبته في اليوم ذاته وقالت، بعد لقاء نتانياهو وزراء خارجية الدول ال28 الإثنين 11 ديسمبر 2017 «على نتانياهو أن يحتفظ بتوقّعه لنفسه لأن أياً من الدول الأوروبية لن ينقل عاصمته إلى القدس». وذكرت مصادر مطلعة أن وزراء خارجية الدول المحسوبة، داخل الاتحاد، على مساندة إسرائيل « أكدوا في حضور نتانياهو على وجوب أن تكون القدس عاصمة لدولتين». وتستند حسابات نتانياهو إلى تأثير مجموعات الضغط الإسرائيلية واليمينية في أوروبا والولاياتالمتحدة من أجل دعم إسرائيل. وبرزت المساندة بصفة مباشرة خلال تصويت الجمعية العامة على قرار القدس ورفضها توصية الرئيس ترامب. فقد احتفظت 6 دول أوروبية، من أصل 28 عضواً في الاتحاد، بأصواتها إلى جانب 28 أخرى من أعضاء المجموعة الدولية. بينما صوّتت لفائدة قرار رفض مرسوم الرئيس ترامب 128، منها 22 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي ومن بينها ألمانياوفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا. والدول الأوروبية التي احتفظت بأصواتها هي كرواتيا ورومانيا وليتوانيا وتشيخيا وبولندا وهنغاريا. وكانت الأخيرة تحفّظت أيضاً على البيان الذي أصدرته فيدريكا موغريني فور إعلان الرئيس ترامب قراره في شأن القدس في 6 كانون الأول حين عطّلت الإجماع الأوروبي. وما كان أمام موغيريني سوى خيار تجاوز الموقف السلبي الهنغاري وإصدار البيان باسم الاتحاد الأوروبي، إذ يرفض بشدة اعتراف واشنطنبالقدس عاصمة لإسرائيل. ومجموعة الدول الست نفسها تحفّظت في منتصف كانون الأول على النص الذي اقترحته فرنسا على قمة الاتحاد في بروكسيل، ودعت فيه بالخصوص إلى مقابلة إعلان الرئيس ترامب باعتراف أوروبي بالقدسالشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. وأدت نقاشات القمة ليل 14-15 كانون الأول إلى اختصار الموقف الأوروبي في سطر ونصف السطر. ويؤكد القادة الأوروبيون أن حل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني يكمن في قيام دولتين وأن تكون القدس عاصمة للاثنتين. وأثارت عزلة الولاياتالمتحدة على الصعيد الدولي وتخليها عملياً، بمقتضى قرار الرئيس ترامب، عن دور الوسيط والراعي للمسار التفاوضي المعطل أصلاً، وفق وجهات النظر العربية، تساؤلات حول قدرة الاتحاد الأوروبي على المبادرة وملء الفراغ، خصوصاً أن الكل يحذّر من أخطار التصعيد في القدس والمنطقة، وأن المجموعات المتطرفة تترصد الفرص وقد تكون المستفيد الوحيد من قرار الرئيس ترامب، إضافة إلى حكومة إسرائيل طبعاً. وانتهت مشاورات مكثّفة بين عواصم أوروبية وعربية إلى «نصيحة التريث» وعدم ارتجال أي مبادرة من شأنها عزل الولاياتالمتحدة. وأي خطوة تضعف تأثير الولاياتالمتحدة في المنطقة ستفقد الأطراف الإقليمية وكذلك الاتحاد الأوروبي قوة التأثير الأميركية على إسرائيل. وبرز التريث في موقف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي رأى أن الوقت لم يحن بعد للاعتراف بالدولة الفلسطينية ونصح بتفادي موقف «رد الفعل» على «خطأ الرئيس ترامب». عقارب ساعة الاستيطان واستناداً إلى «نصيحة التريث»، يتوقع أن تشهد بداية السنة مشاورات مكثّفة بين الجانبين الأوروبي والعربي تمهيداً لاجتماع اللجنة الرباعية ودعوات لتوسيعها. وتضم اللجنة الولاياتالمتحدة وروسيا والأممالمتحدة، ويساند الاتحاد الأوروبي بقوة اقتراح توسيع اللجنة كي تنضم إليها الدول الفاعلة في المنطقة مثل مصر والسعودية والأردن أو بعض الأطراف الأخرى مثل النروج التي قدمت الكثير لدعم مسيرة التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وسيكون اللقاء المرتقب بين الرئيس الفلسطيني ووزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في 22 كانون الثاني 2018 فرصة تقويم نتائج المشاورات الجارية على أكثر من صعيد. لكن عقارب ساعة الاستيطان لا تتوقف عن الدوران، إذ يشجع قرار الرئيس ترامب حكومة إسرائيل على تسريع وتيرة توسيع المستوطنات القائمة منها والعشوائية واستحداث أخرى، ما يسرِّع وتيرة الأخطار والتهديدات بإفشال حل الدولتين، إن لم يكن الحل قد أُجهز عليه. وحذّر تقرير نشره قسم العمل الخارجي الأوروبي (وزارة الخارجية) حول توسُّع الاستيطان في الضفة الغربيةوالقدسالشرقية من أن يؤدي توسّع نشاطات الاستيطان إلى نسف حل الدولتين. وذكر التقرير نصف السنوي للفترة الأولى من عام 2017 أن «توسّع المستوطنات يتم بأساليب عدة ومنها موافقة حكومة إسرائيل على بناء مستوطنات جديدة، وبناء وحدات سكنية إضافية داخل المستوطنات القائمة وإقامة البنى التحتية للربط بينها، وتقنين المستوطنات العشوائية واعتبار التراب الفلسطيني «أرضاً» تابعة للدولة. وأعد التقرير ديبلوماسيون أوروبيون معتمدون في القدسالشرقية ويستندُون فيه إلى إحصاءات الإدارة الإسرائيلية. ويشير التقرير الذي صدر في منتصف كانون الأول 2017 إلى أن 208 آلاف إسرائيلي يعيشون في القدسالشرقية وأن 399 ألف إسرائيلي يعيشون في المستوطنات في الضفة الغربية، وخارج القدس. ويعيش إجمالي المستوطنين الإسرائيليين (600 ألفاً تقريباً) في 142 مستوطنة منها 130 في الضفة الغربية و12 في القدسالشرقية. ويقدّر جهاز الإحصاء الإسرائيلي عدد الإسرائيليين الذين يعيشون في المستوطنات بنحو 4.6 في المئة من إجمالي السكان الإسرائيليين. ويعتبر التقرير الأوروبي أن «التطور الأساسي الذي حدث في النصف الأول من 2017 تمثّل في إقامة مستوطنة جديدة (اميهاي) في الضفة الغربية قرب مستوطنة «شيلو» من ناحية والمستوطنات العشوائية من ناحية أخرى. ويشير التقرير إلى أن «مستوطنة اميهاي هي الأولى التي تقيمها حكومة إسرائيل منذ 1992». ويحذّر أيضاً من «تطور مخيف آخر يتمثّل في تقنين مستوطنات «كيريم» العشوائية وغير القانونية». وتقوم سلطات الاحتلال بفتح الطرقات ومشاريع البنى التحتية والمشاريع السياحية، وكلها تساهم في توسيع مساحة المستوطنات في الضفة الغربية بما فيها القدسالشرقية. ويذكر التقرير الأوروبي إلى أن استمرار الاستيطان «ينتهك القانون الدولي وقرار مجلس الأمن الرقم 2334 (2016) ويتناقض تماماً مع الموقف الأوروبي الدائم وتوصيات اللجنة الرباعية». وبينما يتردد الحديث في بعض التقارير عن «صفقة القرن» التي قد تعرضها واشنطن على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وعلى الأطراف الإقليمية الفاعلة والاتحاد الأوروبي، فإن التساؤلات قائمة إن كانت «الصفقة» المزمعة ستقتضي من الفلسطينيين، والدول العربية، التسليم بالأمر الواقع وقبول السيادة الإسرائيلية على المستوطنات والقدسالشرقية وغور الأردن، ويهودية دولة إسرائيل، في مقابل الاعتراف بقيام الدولة الفلسطينية حول ما يتبقى من تراب الضفة الغربية زائد قطاع غزة؟ أم أن الصفقة التي ستعرضها الإدارة الأميركية ستراعي أدنى المحددات ومقتضيات القانون الدولي من سبيل ضمان الدخول إلى الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، عبر ممرات محددة بين القدسالشرقية وأبوديس. وإذا كانت هذه ملامح الصفقة المزمعة، فالأكيد أنها ستُرفض فلسطينياً وعربياً ودولياً مثلما رُفض قرار الرئيس ترامب في شأن مدينة القدس. وقد يتسرّع آنذاك نقل ملف النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني إلى الأممالمتحدة والمحاكم الدولية، في غضون عام 2018.