يمكن أن ينسى الإنسان، لكن التاريخ لا ينسى، فهو مستودع الأحداث التي تمت بفعل الإنسان، لذلك يذكرنا التاريخ أنه عندما دخل اللورد اللمبي، قائد القوات البريطانية، القدس عام 1918م، قال: «الآن انتهت الحروب الصليبية». هو بذلك يستذكر عبر التاريخ انتصار العرب على الصليبيين وطردهم من بلاد الشام. المتأمل يرى اليوم أن السياسة الغربية، بكل تناقضاتها ومحاباتها لدولة إسرائيل، ليست بعيدة عن الاستمرار بالمعنى الذي يوحيه قول اللمبي، فذلك يؤشر لموقف ثأري من العرب. فلا نؤخذ بالتصريحات الدبلوماسية والإنسانية المتقنة تجاه قضية فلسطين، الصادرة من بعض المسؤولين الغربيين، فلو أرادت دولهم لعملت على تنفيذ قرار تقسيم الأممالمتحدةلفلسطين بين العرب واليهود، الصادر عام 1947م. لقد لعبت الصهيونية العالمية على وتر نتائج الحروب التي مرت بها أوروبا الغربية (الصليبية والعالمية الأولى والثانية..) والأوضاع الناتجة عنها، فاستثمرت الصهيونية انعكاسات ذلك وبنت عليها، مستغلة إياها تجاه تحقيق هدفها بإقامة دولة يهودية في فلسطين. فبدأت تروج لهذا الهدف وتدفع بكل ما وسعها لقبول الأوروبيين فكرة السيطرة على فلسطين، بما فيها القدس، بعد أن طردوا منها خلال الحروب الصليبية. أرادت الصهيونية أن يتواجد البريطانيون في فلسطين ليحل محلهم فيما بعد دولة يهودية، وهكذا صار. فقد استعمرت بريطانيا فلسطين، ومهدت لقيام دولة إسرائيل فيها بإعلان وعد بلفور، وزير خارجيتها، عام 1917م، وكما هو معروف تم إعلان قيام دولة إسرائيل في فلسطين (15 مايو 1948م) كحقيقة واقعة، واعترفت بها الدول الغربية ودول أخرى وأصبحت إسرائيل عضوا في الأممالمتحدة. ومنذ قيامها، شنت إسرائيل حروبا وهجمات واجتياحات للأراضي الفلسطينية وأقامت المجازر تلو المجازر وسلبت حقوق الفلسطينيين واستهانت بهم واحتلت المزيد من أراضيهم وتوسعت فيها؛ لدرجة أن صدق العرب تقريبا بمقولة أن إسرائيل «قوة لا تقهر». وتعامل العرب مع إسرائيل من موقف ضعف، أسهم في بناء أسطورة قوتها التي نمت بمساعدات غربية. فكان أن اتخذ العرب أسلوب التهديد والوعيد على الهواء والورق، وهم متفرقون، وليسوا على كلمة سواء، بل متناقضون في مواقفهم تجاه التعامل مع الشأن الإسرائيلي. فقد تكلموا وصرحوا وقدموا المبادرات؛ بهدف تحقيق السلام مع إسرائيل، ولم تنجح حتى الآن كل المبادرات أمام الرفض الإسرائيلي. والعرب بشكل عام ظلوا كما لو كانوا، حسب وصف عبدالله القصيمي «ظاهرة صوتية». في النهاية اعترف الفلسطينيون وبعض الدول العربية بإسرائيل. وقد تؤدي سياسة إسرائيل، الرافضة لصوت الحق والسلام، إلى زوالها إن شاء الله. لم تنجح المبادرات العربية للسلام مع إسرائيل لأنه أولا: إسرائيل ترى أن المبادرات صدرت من موقف ضعيف، وثانيا : لأن إسرائيل نفسها تعمل على رفض وقتل أي مبادرة تسوية للصراع العربي الإسرائيلي، لأن ذلك يحد من طموحاتها التوسعية، وإن لم تستطع عرقلة أي مبادرة عربية فهي تستطيع ذلك عن طريق الإعلام اليهودي والكونجرس والإدارة الأمريكية. فمقابل المبادرات والدعوات العربية للسلام، إسرائيل تريد الأرض والاعتراف والتطبيع مقابل السلام، دون الانسحاب من الأراضي، لكن «التطبيع رسميا قد لا يقبل شعبيا». رؤية إسرائيل للمبادرات العربية لخصها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، أرييل شارون في اجتماع مؤتمر «اللوبي» اليهودي (اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة) المنعقد في ربيع الآخر 1426ه مايو 2005م، إذ قال: «من غير قصد الإساءة للعالم العربي، يجب القول إن الاتفاقيات والتصريحات والكلمات الصادرة عن العالم العربي لا تساوي الورق الذي تكتب عليه، لذلك لا يجب الاعتماد على تعهدات القادة العرب»، والله أعلم .. (يتبع).