فتحت "آفاق" الباب امام الفنانين التشكيليين العرب المقيمين في الخارج للاجابة على سؤال: "من انت؟" في اطار فهم العلاقة بين هؤلاء وبين الواقع الثقافي التشكيلي الذي يحيط بهم يومياً. ونشرنا دراسة اعدها الفنان التشكيلي العراقي يوسف الناصر كمقدمة لا بد منها للدخول الى هذا العالم المتناقض والمتشعب، كما وجّهنا رسالة مفتوحة الى جميع التشكيليين العرب في الخارج توضح الفكرة من الاستفتاء. وها نحن ننشر اسهامات التشكيليين العرب كما وردت الينا وفق تسلسلها الزمني، على امل ان نتابع في "آفاق" نشر كل الآراء التي تصبّ في اغناء وعي الحركة التشكيلية العربية لنفسها في الخارج، وكذلك اطلاع الفنانين التشكيليين العرب على مواقف وانجازات زملاء لهم ربما وجدوا صعوبة في معرفتها في السابق. ومرة اخرى نؤكد على ان المجال متسع ورحب امام كل المساهمات، تعليقاً ونقداً وتوضيحاً. جوهرنا التشكيلي ما زال قائماً... } نحات سوري عرض أعماله في دمشق وحلب وموسكو وبودابست وبرلين والكويت ومدريد وبيروت وباريس وبرشلونة وهافانا وغرناطة. تحصيله الدراسي في بوينس ايرس ودمشقوموسكو وباريس ومدريد وغرناطة. مقيم حالياً في غرناطةاسبانيا. لعل أهم ما اكتشفته من خلال ممارستي للنحت هو تصوري للحقيقة - تلك العلة الفلسفية - لا بد انها تشبه المنحوتة. فوجهات النظر اليها لامتناهية ومعظم البشر اعتادوا تأملها باطمئنان وثقة من مكمن مريح، ثابت ومتوارث… لنقل موقع الدوغما. ثمة من يغيّر مكمنه ليستقر في آخر، وتبقى الدوغما اياها باسم مغاير. قلة هم من يسعون حولها لتسقط مختلف وجهات النظر. والندرة هم أولئك الذين يدركون، اذ يكملون دورتهم، ان زمناً قد مر وان الحقيقة - المنحوتة، تغيرت، فيتابعون الرحلة من دون ان يجرأوا على اطلاق أحكام مطلقة، وان تحدثوا ضاعت أصواتهم وسط صراخ الغوغاء… ربما كان الصمت أجدى أحياناً. هي صورة مجازية، لكنها تساعد في تلقف الحياة برحابة أكبر. ماهية ذواتنا موضوعة مشابهة. الوسط الذي ننشأ فيه، شروطه وكل ما نسعى الى اكتسابه في هذه التجربة - الحياة يكوّننا من دون ريب. ثم نسعى من خلال عملنا الى تأكيد ذواتنا من دون ان ندرك غالباً اننا نعمل لنعرف انفسنا من خلال رأي الآخرين. الحديث عن الذات لا يمكن ان يكون موضوعياً لأنه يحتاج الى الكلمة - الوسيلة، ومن المحال التعبير عن موقف الصمت بالكلمات. اما اذا كان المطلوب تسجيلاً للمحطات في مصنع الذكريات هذا فلا أسهل. ربما كانت شروطي متميزة عن زملائي، والميزة ليست ايجابية بالضرورة. طفولتي في بوينس ايرس الارجنتين منحتني باباً للتفاعل المبكر معپعالم تحتاني آخر يدعونه ثالثاً عادة. ثم مراهقة وتكوّن للادراك في يبرود ودمشق سورية، أي تشبع بالثقافة الاساسية التي وسمت أدواتي في الدوران آنف الذكر. ثم فرصة تحصيل التجربة والعيش في عالمي ما قبل سقوط السور… فعودة الى موطن الثقافة التي طبعت مداركنا ومشاعرنا وبالتالي تفاعلنا، محمّلاً بألف حلم وأمل. لنجد في قحط الظروف ما يدفعنا الى لمّ شتات مشاعرنا في جعبتي القحف والصدر لننتقل من المنفى الوطني الى منفى آخر أقل غربة لأننا، أصلاً، غرباء فيه، الى هذا الحد أو ذاك. ثمة اصرار في بلادنا - يبدو لي - وربما لدوام القهر والجهالة، على التطلع والاذعان لما يأتينا من فوق الغرب المهيمن، لا أنكر ضرورة التنصت للآخرين - والا انقطع الدوران - لكن شريطة الالتفات الى ما تحت اقدامنا والى جهات اخرى. التأريخ يكتبه المنتصر، والمنتصر - المهيمن ليس محقاً بالضرورة… وقلما يكون. لم يقدموا لنا قراءة لتاريخ الفن، بل أملوه. ثم بدأت في الجنوب موجات الانحناء الموافق وما برحت. كان كافياً ان يشير لفيف من المستشرقين الى ان علاقة العرب بالتشكيل هي علاقة مع الزخرف والخط العربي ليتسابق جيش من التشكيليين الى ادخال الخط في اللوحة، ثم ركنوا مطمئنين لأنهم "وجدوا" هويتهم! الخط العربي فن نبيل وغني بذاته. أليس من العهر تناوله بهذه الركاكة لتأكيد هوية تبدو في نهاية الأمر سخيفة ومذلة؟ أتساءل… لا أقرّ. انا مستغرب من غرب، وأتساءل مرة أخرى، ألا يسعى الغرب الفوقاني الى جانب احتلالنا واخضاعنا واذلالنا الى نفي الأرضية الغنية التي نشأنا منها وفيها؟ لماذا يتم تحجيم تراثنا الى فترة تاريخية محددة؟ من الذي ينكر عظمة العمارة والزخرف والخط التي أغنى بها الاسلام تراث البشرية؟ لكن تاريخنا التشكيلي أرحب. الثقافات التي حلت في بلادنا بوسائل عسكرية، من اغريق وفرس ورومان وبيزنطيين، حلت كسلطة وشعبنا هو الذي بنى تلك الأوابد الفنية، تشبع بها استوعبها وأحسها… فهي ركام آخر يضاف الى معلمينا القدماء من سومريين وآشوريين ومصريين وفينيقيين وغيرهم. نحن في موقع مثالي، نتميز بسعة التجربة عن كثير من البلدان الفوقانية، ناهيك عن موطن المتروبوليتان، ففقرهم مدقع... الا انهم يؤرخون اليوم! جاء في استفتاء "الحياة"، في الفقرة التالية للعنوان المخيف "من أنت؟" ان اساس لغة الفن التشكيلي البصرية الذي وجدت عليه خلال نهضتنا الحديثة في البلدان العربية هو اساس اوروبي. هذا صحيح في ما يتعلق بمفهوم اللوحة - السلعة، الا انه لا ينطبق تماماً على النحت. ربما لهذا اميل الى تجاوز المفهوم الذي املته اوروبا القروسطية، عندما اخرجت التشكيل من دوره الديني لتطرحه دنيوياً ولتدخله البرجوازية في ما بعد بورصتها وتستعمله الرأسمالية اليوم كسلعة اخرى خاضعة "للماركيتينغ"، وليس ما يشتهر ويباع في عصر الرأسمال الافضل في اغلب الاحوال. من فضائل اقامتنا في الشمال امكان الاطلاع على كل ضرب من الفعاليات الفنية، وقد جمعت اوروبا، بفضل قرون من النهب، من ابداعات الشعوب "المخضوعة" ما يسهل دراسة تلك النماذج والتفاعل معها. ثم ان متاحفها مليئة بكل ضرب من التجارب، بعضها رائع، وكلها يستأهل اهتمامنا، حتى تلك التي تعكس التيه وانعدام الانسنة والسخف المستشري في دنيا تتعو لم لما فيه خير صندوق النقد الدولي ممثل الدول الناهبة ودوام التقيؤ على العالم التحتاني. وأدور الجوهري، دوماً، بطيء التحول الاحظ اختلافاً في الوسائل، وهموماً قديمة قديمة ما زالت. وانني ما برحت تحت، يلفني لغط وهياج حول ما بعد الحداثة في بلاد لم تصل الى الحداثة بعد! وبالطبع، دوماً بالمعايير الفوقانية والا خرجنا عن سراط العولمة التي يريدونها! من البديهي اذن ان ينظروا الى التشكيل من خلال الثقب الذي وُضعوا امامه. فامتلاك رؤية خاصة جد مرهق في عالم يرفض الآراء التحتانية، وهو عالم يمحي وجودك ويحيلك غائباً وانت حاضر. لي رأي مغاير، ربما نكاية، أو حيونة كما يقولون. أرفض الاستنساخ، سواء كان بيولوجياً أم فنياً، فالثاني لا يقل خطورة عن الاول. ثروة البشرية في تنوّعها، وهو الشيء الوحيد الذي يعلمنا التفهم والتفاهم، وهي وسيلتنا الوحيدة للبقاء والابقاء. اقامتي في اوروبا افادتني وأثّرت بي من دون شك. هذا من نافل الحديث، فكل تواصل مع تجارب الشعوب وتاريخها يغدو جزءاً من كياننا ورؤيتنا، سواء كنت في فرنسا او مدغشقر او غواتيمالا. وهذا التواصل يساعدني في التخلص من مفهوم الغرب - المركز. احنّ الى الاقنعة الافريقية والى سيراميك المايا والى رسوم هو كوساي كما تشدّني الثقافة الاوروبية. الا انني اخترت، منذ سنوات، الالتفات الى الوراء. الى بلاد الرافدين والفينيقيين، والى فنون العصر الحجري. ربما الى المولد - الجذر، فما زال الجوهر التشكيلي قائماً. اختلفت شروطه لكنه ما زال يمسّنا وهو يخصّنا. اجدني مشبعاً بالدينامية الداخلية للكتلة. تلكم أثمن منجزات فنوننا القديمة، عارضتها اليونان في ما بعد بالحركة الظاهرية وكانت اساساً حاسماً للرؤية والثقافة الاوروبيتين. ميلي الى مجال للرؤية ارحب يعود الى بداية علاقتي في اوروبا في اوائل السبعينات. اذكر انني كنت أتلقف بنهم كل ما صادفته ما بين موسكو وباريس ومدريد، وفي الوقت ذاته كنت مستغرقاً في دراسة فنون المايا، الازيتك والتولتيك... ثم جاءت افريقيا وقليل - لا يكفيني - من الهند والشرق الاقصى. طور التعلّم وتحسّس الأمور لا ينتهي ما دمنا نسعى الى الرؤية. ثمة من يروق له ما يفعل لأنه يكتفي بالنظر. لذا أدور مع معلمي القديم الذي حملته من بلادنا. اخفق، اتحامل ونتابع الدوران. أمّا من أنا...