ان برشلونة التي تعتبر اليوم من أهم المرافىء، ومن أهم مراكز الثقل الاقتصادي في الخريطة الاسبانية، والتي اصبحت منذ عام 1983 عاصمة الحكم الذاتي لكاتالونيا، تجد رسماً أولياً لسرعة توسيعها وزيادة ازدهارها، ما بين عامي 1874 و1888، سنة أقامت معرضاً دولياً في متنزهها الوطني، ساعية الى ان تكون مدينة تستقطب اثرياء العالم واقويائه، اسوة بباريس ولندن وفيينا وليفربول وفيلادلفيا وامبير. لقد حضر معرض باريس - أقيم سنة 1867 - البرنس دو غال وزوجته، باشا مصر وسلطان تركيا، وملوك اليونان والدانمارك وبلجيكا، ملك بروسيا وقيصر روسيا. وإقامة المعارض الدولية في مدينة ما يبقى حدثاً اقتصادياً - سياسياً، يهدف الى ان يجمع في مكان واحد وزمن واحد النماذج الاكثر تمثيلاً للانتاج الصناعي والحرفي والفني، كما آخر المخترعات، بغية ايجاد اسواق تجارية جديدة، وإتاحة فرصة للتعامل المباشر بين المورد او ممثليه والتجار المحليين. اما من الناحية السياسية، فان هذا الحدث، الذي تملأ اصداؤه عواصم ومدناً كبرى، يوحي بالاستقرار السياسي ويظهر قوة علاقات الدولة التي تدعو له. وفي الربع الاخير من القرن الماضي، كانت برشلونة تسرع توسيعها، فبنيت فيها ما بين عامي 1874 و1876 خمس اسواق جديدة، وشاءت بورجوازيتها ان تنفتح على أوروبا، وقد أمنت لها عودة الملكية الى البلاد عام 1874 السلام والاستقرار، اللذين كانت بأشد الحاجة اليهما، في اندفاعها وراء كسب المال. في الربع الاخير من القرن الماضي، تركت بورجوازية كاتالونيا، وريثة النظام الاقطاعي، السياسة لأهلها، وهادنت الفونسو دي بوربون، ابن الملكة المخلوعة ايزابيل الأولى، الذي ارتقى العرش في نهاية الحروب الكارلية، التي حسمت أمر الجمهورية الاولى. لم يكن لتلك البورجوازية من هدف تحققه على الصعيد الحياتي، غير مضاعفة ثرواتها. وقد اغتنت خلال الحروب الاستعمارية الطويلة - وخاصة في كوبا، حيث قاومت بكل قواها الغاء قانون الرق - عندما ازداد الطلب على لوازم الجيش، مما نشَّط الصناعة البرشلونية، التي لم تؤثر على حركتها خسارة المستعمرات، لأن تجارتها ظلت في أيدٍ كاتالونية. وكانت برشلونة في تلك الفترة، تحتاج الى ان تلفت اليها انظار العالم، والى ان تقوم بعمل ما يوحي لها الثقة بالنفس، فأقامت على أرضها اول معرض دولي عام 1888، حضرت له الهيئات الاقتصادية بموافقة البلدية وتعاونها. واكتسب هذا الحدث أهمية واضحة في تاريخ المدينة - كانت لا تزال الحياة فيها ريفية الطابع الى حد ما - فأوجد فيها حركة لحياة متجددة، وإن لم ينل على الصعيد الخارجي اهتماماً أوروبياً: لم يحضر المعرض الاثرياء وأرباب الصناعات. واكتفوا بأن ارسلوا ممثلين عنهم للمشاركة في يوم الافتتاح. وانعكست إقامة المعرض ايجابياً على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المدينة الكونتية، ولم تعد برشلونة تضجر من رتابة حياتها وبلادتها، فاضافة الى انشاء سوق سادسة جديدة في حي غراثيا، بنيت منازل كبيرة جديدة التصميم، ودخلت قناديل الغاز الى البيوت، فطالت السهرات، ولم تعد حياة المدينة تنتهي مع غياب الشمس: صار مألوفاً ان يتنزه المواطنون في الشوارع ليلاً، وان تفتح المخازن ابوابها حتى التاسعة، كما اتسع هامش الوجود قليلاً بالنسبة للمرأة، فصارت البورجوازية التي اعتادت ان تلازم البيت، تخرج الى الاسواق تتفرج على واجهات المحلات. ولأول مرة في تاريخ المدينة، ظهرت الصبايا اللواتي استقبلن الزوار في المعرض، في أماكن عمل جديدة، وتابعن مهامهن في الشركات والمؤسسات، مما أثار موجة استنكار عارمة في المجتمع الذي تعوّد ان يرى امرأة الطبقة الشعبية تعمل خادمة في تنظيف البيوت او تعمل في خياطة الثياب. عاشت برشلونة بعد عام 1888 حياة تجدد وانفتاح، وصار مستقبلها الواعد على الصعيد الاقتصادي يستقطب مغامرين من اوروبا قصدوها ليفتنوا بها - اندريه لوبرنس هو اسم بطل رواية ادواردو ميندوزا: حقيقة قضية سافولتا - كما أخذت برشلونة تستقطب مهاجرين من القرى الكاتالونية، ومن الجنوب الاسباني، وفدوا اليها بحثاً عن فرص للعمل، فاتسعت احياؤها وتضاعف عدد سكانها في حوالي ثلاثة عشر عاماً، وبلغ 946،546 نسمة في نهاية القرن. الا ان هذا الازدهار الجديد، الذي سعت اليه البورجوازية لتضاعف ثرواتها، لم يؤثر ايجاباً في حياة العمال الذين كانوا مستغَلين الى أقصى حد: يتحملون طغيان سادتهم، ويعملون في المصانع والمناجم احدى عشرة ساعة يومياً، يعيشون في غرف معتمة وضيقة، يأكلون رغيف خبز وسردين بالخل، ولا يستطيعون ان يرسلوا اولادهم الى المدارس. وكان بؤس العمال، كما الظلم اللاحق بهم، أمراً يغضب ابناء جماعة ثالثة قليلة جداً، ومرتاحة مادياً نوعاً ما: لقد عانى ابناء هذه الجماعة من مواقف اذلال كانوا يتعرضون لها في اوساط الاثرياء، فامتلأت قلوبهم بالحقد، وتحوّلوا الى العنف، الذي وجدوا فيه وسيلة للإفلات من ضغط عقدهم وقلقهم. فكثرت الجرائم، وعجزت الدولة عن ضبط الأمن. وكانت الجريمة تبقى غالباً بلا عقاب، ولم تلبث شوارع برشلونة ان امتلأت بالدم، نتيجة للصراع بين البورجوازية والعمال ومؤيديهم. كان تناقض الواقع حاداً، بين الاحياء "الراقية" والشوارع الخلفية في المدينة، او بالاحرى في ما يشبه مدينتين متجاورتين ومختلفتين كلياً. لم تكن برشلونة الصالونات الجديدة الفخمة - تنعكس اضواؤها في مرايا غالية الثمن، تعقد فيها الصفقات الرابحة او تُحاك فيها المكائد للفوز بطعام المائدة - تهتم لما يجري في برشلونة الغرف الصغيرة العتمة ورغيف الخبز والسردين، فتفجرت الكراهية والحقد بين الطبقتين عنفاً وارهاباً في شوارع اجتاحتها تظاهرات عفوية للاحتجاج على الاستغلال، قام بها، بعيداً عن اية ايديولوجيا، عمال البناء والمناجم ومصانع النسيج، بين عامي1890 و1902. وطال العنف مؤسسات وشركات، واغتيل رئيس الوزراء، كانوفاس دل كاستيو في 1897، وسقط قتلى وجرحى يوم ألقيت قنبلة على عربة الملك الفونسو الثالث عشر وعروسه في يوم الزفاف 1906. صار العنف موازياً للازدهار والتوسع اللذين سعت اليهما المدينة. وفي غليان هذه الاجواء المعقدة والمشحونة بالكراهية والتوتر، التي أفرغت فيها الحياة من مضمونها الاخلاقي، يرتقي اونورفي بوفيلا - بطل مدينة الأعاجيب، الوضيع النسب - السلم الاجتماعي ليخترق الدائرة البورجوازية، ويصبح "وجهاً ثرياً" بارزاً من وجوهها، اذ صاهرها، بعد ان جمع ثروة، وتزوج واحدة من بناتها اللواتي كن ينتظرن عريساً في البيت، واستطاع عن طريق هذا الزواج ان يقترب من اصحاب السلطة والنفوذ، فسهلت عليه علاقاته بهم تنفيذ مشاريعه ومضاعفة ثروته. لكن اونورفي بوفيلا، الذي صار اغنى رجل في اسبانيا، ظل يجلس، وحتى سنة اختفائه في البحر 1929 في الصفوف الثانوية في الاحتفالات الرسمية! فالبورجوازية الكاتالونية، كانت تقبله وترفضه في آن، لانها لم تنسَ نسبه الوضيع: هو من الوافدين الفقراء الى المدينة، ما بين عامي 1886 و1887، تزعَّم عصابة مافياوية، وأثرى عن طريق المضاربات العقارية، قبل ان يخترق صفوفها، ويحقق احلام طفولته، فيصبح ذا شأن في دائرة مراكز السلطة والنفوذ. وفي المقابل، فان بوفيلا الذي استطاع من خلال ثروته ان يخترق الدائرة البورجوازية الكاتالونية، واختار ان يتبنى فرديتها ويمارس اخلاقيتها - اعتمد اساليبها الملتوية ليضاعف ثروته، ومد يده الى اطباق مائدتها، يأكل منها "حتى لا يؤكل" - ظل في اعماق الحقيقة مختلفاً عن افراد وجماعة الطبقة التي ارتقى اليها: ظل يرفض اخلاقيتها، وينفر من بؤس فكرها وخواء قيمها المادية، فكشف وجوده فيها زيف حياتها ونقاط ضعفها. تبقى شخصية اونورفي بوفيلا محور الحدث في رواية ادواردو ميندوزا الشهيرة "مدينة الاعاجيب" - ترجمت الى الايطالية والفرنسية - لانها شخصية تختزن في ملامحها ابعاد الصراع بين الأضداد، حيث يوجّه الكاتب من خلالها النقد اللاذع الى قيم مجتمع يقدس المال ويهمش المبادىء الانسانية، ويسلط من خلالها الضوء على التوتر القائم بين الفرد ومجتمعه، في زمن التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وفي زمن الصراع المميت بين الطبقات. ان ارتقاء بوفيلا الى الدائرة البورجوازية لم يدفعه الى تقديس المال واصحابه، ولم ينسه الكثير من مبادىء الحياة الكبرى. لقد ظل الرجل ثاقب الذهن في مواجهة تناقضات النظام الاقتصادي الذي تعيشه مدينته. رفض الديكتاتورية، وكل أساليب القمع الاجتماعي، التي تحد من الحرية الشخصية، واهتم بتحقيق العدالة التي تنسجها المخيلة الانسانية عن العدالة الاجتماعية، واعترف بحق العمال في الكرامة والحياة، ولذلك لم يشعر بالخوف الذي شلّ حركة الماركيز "اوتي" في مواجهة الغضب الجماهيري. تعاطف اونورفي مع البؤساء، ودفعته احلامه عن العدالة الاجتماعية الى ان يتصور نفسه مثل نابوليون، كما جسّد التطلعات الكاتالونية التاريخية - تكدست خيبات طوال قرون - بترميمه قصر روسيل، وظلّت شخصيته المتناقضة، والغنية بأبعادها، تختصر في مواقفها السلبية والايجابية، تاريخ برشلونة الاجتماعي، ما بين عامي 1887 و1929. في تجسيده لصراع الاضداد، في مجتمع يقدس المال ويهمش المبادىء، في زمن التحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى - وفي كل زمن - كما في تجسيده للتوتر القائم بين الفرد ومجتمعه، انطلاقاً من مبدئية معينة ومن رؤية خاصة للحياة، يتجاوز اونورفي بوفيلا حدود برشلونة في نهاية قرن وثلاثينات آخر، ليتكرس بطلاً في مدن كثيرة، تحتاج الى ان تعيد النظر بأخلاقيتها وقيمها في أواخر القرن العشرين.