مع عودتي لاهثاً ومتوجساً الى البيت، هالني كم انه تغير بعدما صدمت بحيرتي في تحديد موقعه بدقة. فقد كبرت الاشجار وهاجت، فإذا هي أعلى من الطابق الثاني وتحجبه عن الناظرين، البوابة الحديدية السوداء الثقيلة خسرت ما كان لها من ضخامة ومهابة. والدرجات لم تعد تتسع إلا لمرور شخص وقد خبرتها فسيحة عريضة. بعد الضغط على الجرس أو الطرق على الباب أو كليهما فتح لي هاتفاً: هذا أنت، ونادى على أمي بهناء من كسب رهاناً وثبتت نبوءته. شعرت بحال أقرب للدوار جعلني ذاهلاً ذهول من يتحول فجأة الى وديعة يلتقطها أصحابها، وذهول من يستشعر الحاجة الباقية الى حنان أصلي. دخلت مدفوعاً بريح قوية من ورائي، واستشعرت الحاجة لمن يأخذ بيدي ويدلني على نفسي. شكرني أبي على مجيئي وحرصت أمي المريضة على إبداء الحيوية في بيتها، كما هو عهدها قبل مفارقتنا لها. هنا الصالون لقد جددناه. هذه البرندة. هنا غرفتكم. هذه الغرفة الثانية. هنا غرفة الجلوس. هنا المطبخ أنت تعرفه. هنا ننام. هنا نشاهد التلفزيون. وفي أثناء تذكير أبي لي بما أعرفه لاحظت أغصاناً مورقة تتسلل من قضبان النوافذ وقد بدا مشهدها وحشياً، كحيوانات خرافية زاحفة تطرق النوافذ بأذرعها الطويلة، ولكأننا نقيم في جوف غابة. دهشتي هذه أثارت استغراب أبي وحتى سخريته وهو الذي يألف الاشجار ألفته لأفراد العائلة، بل إن إلفته للاشجار أطول عهداً وأشد رسوخاً وأكثر استدامة إذ تثبت أبي والأشجار في مواقعها ولم تتزحزح. احتفاء أبي وأمي بي لم يكن مفاجئاً، ولا محاولتهما البائسة استعادتي ولا رنة العتاب الخفي في نبرتهما، فهما يواجهان تقدم العمر بجلد وكبرياء من دون معونة أو سلوى من أحد. إنهما بصحة ليست سيئة على رغم الامراض، ولا يوصفان بعجوزين، على أنه تنطبق عليهما عبارة ان مستقبلهما بات وراءهما. وبدا لي تلك الساعات أني أماثلهما الموقف إياه. غير انهما يضيقان بالبيت الفسيح، فأبي يكثر من حركته، يذرع الممر والغرف دونما هدف سوى ربما لملء الفراغ الذي يصدمه اينما اتجه. أما أمي فأكدت لي غير مرة ان البيت لا يفرغ من جيران طيبين تحبهم، ولم أصادف أحداً منهم. ما كان بيتاً لنا للعائلة الكثيرة بات لهما فقط، فقد تركنا البيت وراءنا وأنشأ كل منا عائلة في الخارج ولم تتأت لأحدنا العودة. وزيارتي هذه استثنائية وعابرة. وقد عزمت أمي على النهوض لإعداد وجبة غداء لي وكنت وصلت بعد الظهر، ولم يثنها عن عزمها سوى قسمي لها أني تناولت طعاماً في نابلس قبل وصولي. ها أنا، إذن، ضيف على أهلي، وضيف في بيتنا، فلم لا أبتسم. ولو لم أكن لتوقفت في الغرفة الشرقية وتلوث عليهما أشواقي الحبيسة، ولما اكتفيت بالفرجة على الركن الذي آواني مع إخوتي والذي طالما سهرت ونمت فيه مع أشباحي. فقد بدأت هناك ومنذئذ إقامتي في الليل. ويروقني اعتقاد ان ما تفرقه وتبدده النهارات تجمعه وتسترده الليالي. لقد تغير الأثاث وتبدلت الرائحة، اذ طليت الحيطان بدهان زيتي مصفر يقاوم البلى. لم أر أبداً ما يدل على حياتي في المكان الذي توقعته قديماً مفعماً بالظلال، فإذا به بالغ الجدة والنقاء، طارد للذكريات وكاتم للأصداء. وقد راعني ان موقفي قد تباعد عن موقف أبي وأمي حيال المكان العائلي. خرجت وقد ضاقت أنفاسي الى البرندة وطاب لي أنها ما زالت فسيحة مفتوحة على سماء زرقاء. أما الساحة الترابية المقابلة فقد ضاقت وعجبت كيف كانت تمتد تحت أقدامنا الصغيرة، وتتسع لركض المسافات الطويلة. بينما اقتربت البيوت التي عهدتها بعيدة. ويا للمفارقة فإن اقترابها مني جعل مشهدها غريباً عني. إن المسافات، كذلك الاحجام تختلف لا شك في عينيّ الصغير عنها في نظر الكبير. لكن التعليل العلمي لا يطفئ تساؤلاتي. فإن امتدت الاشجار وهاجت بما هي كائنات حية، فلماذا ينكمش البيت الذي طالما زهوت باتساعه وارتفاعه وهو ليس بكائن ولا بحي؟ لماذا لم يحتفظ بحجمه وجُرمه المعهودين؟