انطلق بنا الباص الصغير من صنعاء إلى المحويت، في اتجاه الشمال الغربي. وما هي إلا مسافة قصيرة حتى أخذت الطريق تتلوى عبر المرتفعات والمنخفضات، التي أبدت لنا ألواناً فاقعة حيناً وقاتمة حيناً آخر، وإنْ كان اللون الأسود هو الغالب على الصخور، الكبيرة منها والصغيرة. ربما تطبق هذه الصخور أجفانها على ذكرى براكينها التي خمدت، أو ربما تُلوح لنا باحتمالات براكين آتية. لم يطل بنا المسير، حتى دخلنا في حقول القات، التي لاحت لنا أشجارها الكبيرة. كما مررنا بأسواق حاشدة لبيع القات. قال لي أحد صاحبيّ، وهما عميدان لكليتين في جامعة صنعاء: هذه الحقول محروسة جيداً، وخصوصاً في الليل. وأضاف واحد من رفاقنا في الرحلة: إنهم يُخزِّنون القات في النهار، ويسهرون على حراسته في الليل. ما هذه النبتة التي تهبُ اليقظة، وتدعو إلى السهر عليها وحمايتها؟ ما هذه النبتة التي تنمو بسهولة فائقة، تنمو في القفار دون حاجة إلى الكثير من الماء أو العناية؟ ربما كانت نبتة الروح المستميتة، تستميت لكي تنهض في القفار النائمة، فتثمر الصحو واليقظة. أخذنا نتقدم، وأخذت الجبال تتشامخ والوديان تتهاوى. وراحت أسماء الأماكن والقرى تبزغ أمامنا، لتتألق دلالاتها في أذهاننا: حجر سعيد، شبام، كوكبان، باب الأهجر، بيت قطينة، الطويلة... وراحت البيوت المتناثرة على القمم تلوح لنا كالحصون التي لا سبل إليها. لم أجد أجوبة شافية عن تساؤلاتي حيال هذه البيوت: كيف بنيت؟ وأية دروب يسلك ساكنوها؟ وكيف يواجهون أخطار السكن فيها؟ كيف يُبنى بيت على جبل يقف كالجدار؟ وكيف تكون الاقامة في بيت تنفتح نوافذه في الفضاء مطلة على هوة سحيقة القرار؟ بيوت كوكبان لاحت لنا فوق كيان صخري هائل. لاحت لنا كالقلاع المسورة التي يستحيل اختراقها. هل هي الحروب التي فرضت بناء هذه المساكن؟ ربما، ولكن الطبيعة المتوحشة التي لا تعرف معنى الرتابة، لا تنفك تدعو القاطنين هنا إلى صراع مرير معها. ولمّا كنا في طريقنا إلى المحويت، فقد قلت لصاحبي: ما يمكن ان يعني هذا الاسم محويت؟ فاحتار قليلاً، ثم قال أحدهما: ربما كان من كلمتين، الماء والحوت. وأضاف الآخر: ربما كانت المنطقة تلك مغمورة بمياه البحر في غابر الزمان. قبل أن نصل إلى المحويت، أخذت الطبيعة تزداد غرابة وحدة. ولكن أخذت تتراءى لنا أيضاً فنون البشر وثمرات كفاحهم الطويل. رأينا ما يشبه المدرجات الزراعية التي أقامها اليمنيون في شعاب الجبال المتطاولة. لقد عملوا عبر أزمان طويلة على تطويع الوعور، واستطاعوا بإرادات صلبة ووسائل بدائية أن يرسموا لوحات بديعة على القمم والسفوح، تلك التي بدأ الضباب يعانقها ونحن نتقدم في اتجاه المحويت. كان وصولنا إلى المبنى الجامعي، حيث استرحنا في مجلس معد للمقيل مجلس القات. ظننت ان رحلتنا قد انتهت إلى آخر مراحلها. لم أكن أعلم خلال استراحتنا ان الرحلة الخيالية لم تبدأ بعد. قال لي أحد صاحبيّ: سنذهب في نزهة بالسيارة إلى الريادي. قلت: وما الريادي؟ قال: مَن لا يصل إلا الريادي لا يكون قد أتى إلى المحويت، ولكن الطريق صعبة، غير معبدة، والباص الذيء أقلنا لا يستطيع سلوكها، لذلك علينا أن نستقل سيارة قوية. أقلتنا سيارة من نوع الرانج روفر، وما ان صعدت إلى قمة الجبل الذي تستلقي عليه بلدة المحويت، حتى انكشفت لنا المناظر المذهلة. تشكيلات من الجبال الهائلة، تبدو متصلة إذا شئت، وغير متصلة إذا شئت، يلفّها الضباب الذي يملأ الوديان العميقة فيما بينها. وصلنا إلى الحافة المشرفة على المشهد الذي لا يُحد، الذي لا يمكنكَ أن تحتويه ببصرك. إنها حافة في قلب الفضاء، مشمسة، وفوقها سماء عالية صافية. ولكن تحتها تترامى السماء السرية. الضباب ينبعث من تحت، من الأعماق، ويصل إلينا - نحن الواقفين على الحافة السماوية - فيلامس وجوهنا بلطف منعش. في البداية كان الضباب كثيفاً في الأعماق، ولكنه ما لبث أن أخذ يتلوّى، ليكشف لنا عن تلك اللوحات البديعة التي تشكلت بمنتهى الجمال ومنتهى الرعب. الذرى تتبدى من خلال الضباب، ذرى تحتها ذرى، وفي الأسفل لا قرار. وما أغرب أن تكون عليها بيوت مأهولة. بيوت سابحة في الفضاء الخرافي. بدت لنا بعض الذرى ببيوتها المتلاصقة وكأنها سفن تمخر عباب الضباب. كانت تبدو وتختفي كأنها في لجة لا تهدأ. وما أغرب أن ينقشع الضباب احياناً فيكشف لنا عن اناس يسيرون على طرق ترابية خُطّت في انحاء الجبال، وعن قطع من الأراضي الزراعية رسمت رسماً. وقفنا على الحافة الخرافية. فوقنا سماء واضحة، وتحتنا سماءٌُ غامضة. فوقنا الشمس، وتحتنا الاسرار. قلتُ: ماذا يكون هذا الضباب الذي يتلوّى في الوديان السحيقة، اذا لم يكن سرّنا الذي يختلج في الاعماق، اعماق روحنا الكامنة. وقلت أيضاً أليست هذه هي الخرافة، التي نراها في أبهى مظاهرها، عندما يمتزج الجمال والرعب في مثل هذه المشاهد المذهلة؟ لم يكن من السهل علينا ان ننفصل عن موقفنا ذاك، على الحافة الأثيرية. شعرتُ بأن كياني بات جزءاً من الحالة السماوية الرائعة التي انغرستُ فيها. ولمّا استدرنا عائدين، شعرتُ بأني انفصل عن المهد الذي احتضنني دائماً، دون ان ادري. مأخوذاً بروعة ما شهدت، جلستُ مع صاحبيَّ ورفاق رحلتنا في المقيل المسائي في مبنى الجامعة. وقبل ان تميل الشمس الى الغروب. سار بنا الباص في طريق العودة، حيث اخذت المشاهد تلوح لي جديدةً، غير تلك التي رأيتها في المجيء. بدا لي ان الاماكن التي مررنا بها تحيا اوقاتها متجددة خلال اليوم الواحد، بدا لي انها تجذب الزمان، تداعبه وتتلوّن به. ولمّا كان لي ان اشاهد تغيّراتها في ساعاتٍ معدودات، فقد رحتُ اتخيّل تغيّراتها عبر الايام والفصول. عند هبوط الليل، اخذت البيوتُ على القمم تُطلق انواراً مرتعشة، كأنها تومئ لنا مُودّعة. وراح الضباب يخرج من مكامنه في الاعماق، لينتشر نحو الاعلى وفي جميع الجهات. كان يحلو له احياناً ان يمرّ من امامنا، تاركاً على الزجاج غشاوة رقيقة. اما القمر فراح يقفز هنا وهناك، يُشرق ويغيب، كأنه يسعى فتعترض الجبال سعيه. يظهر احياناً من وراء صخرة، ولا يلبث ان يختفي. وحين تنكشف له الارض قليلاً، وينقشع الضبابُ عن وجهه، يبذل نور كاملاً، يبذله على وجه المدى، فنراه متهالكاً على الصخور الجاثمة بقسوة. كأنه يسترق الفرص ليجتذب الثرى اليه. انه قمرٌ حائرٌ متعثّر. يسعى فتعترضه الجبال، ولا ينفكُّ يبذل نوره المتهالك على تلك الطريق الصعبة، التي قداتنا الى سمائنا السرّية.