بدت كلمة "عصابة" الكلمة المفتاح في الاشارة الى مرتكبي مجزرة الاقصر. فسائق التاكسي يستخدمها في وصفهم، وكذلك يفعل عامل الفندق. اما المثقفون والسياسيون وصانعو الرأي فيضيفون اليها نعوتاً اخرى من نوع "مجرمين" و"قَتَلة". وهذا اقل ما تستحقه المذبحة التي اودت، يوم 17 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، بپ58 سائحاً و4 مصريين تم التمثييل بجثثهم على نحو مقزّز. فما ان انتهت حتى اكتشف قطاع واسع من المصريين انعكاسها على لقمة عيشه. فإذا علمنا ان عدد العاملين في السياحة على اختلاف مراتبهم، يرقى الى مليون، وان المعدل الوسطي للاسرة ما بين ستة افراد وسبعة، ادركنا اثر العملية على عيش المصريين، فضلاً عن امنهم. لكن "الجماعة الاسلامية" لم تصبح عصابةً لمجرد انفضاض الناس عنها، واستيائهم من رعونة افعالها. فهي غدت كذلك لتحررها من الرقابات كافة بما فيها الرقابة التنظيمية نفسها. وقد ظهر هذا الانفكاك على اوضح الصور بُعيد تموز يوليو الماضي. آنذاك اصدرت قيادات السجن من "المشائخ" الاكبر سنّاً دعوة الى وقف اعمال العنف، لكن عبود الزمر وكرم زهدي والآخرين المشاركين بصورة او اخرى في اغتيال الرئيس السادات، لم يستطيعوا حمل الارهابيين الناشطين خارج السجن، على الاستجابة. صحيح ان رفاعي أحمد طه "الامير الفعلي" المقيم في أفغانستان بادر الى تأييد دعوة المساجين، غير ان عملية الاقصر جاءت تلبيةً لطلب رفيقه مصطفى حمزة المسؤول العسكري المقيم في أفغانستان ايضاً، كما دلّ البيان الذي عُثر عليه مع المنفذين. وحينما اصدر الناطق بلسان الجماعة المقيم في أوروبا، أسامة رشدي، بياناً اعتذارياً عن الاقصر، ثم اتبعه بآخر ضد التعرض للسياحة والسياح، كذّبه رفاعي أحمد طه. وقد سمعت بالتفصيل من المحامي منتصر الزيات قصة عجزه عن حمل رفاعي على تأييد مبادرة عبود الزمر والمساجين، ما دعا الزيات الى التنحّي عن الدور العام وعن متابعة المبادرة، هو الذي كان من مؤسسي "الجماعة" قبل ان ينصرف الى المحاماة كلياً: "لقد شعرت بفقدان الصدقية بالكامل" كما قال المحامي الذي اضاف: "جعلتني مجزرة الأقصر انزوي ثلاثة ايام في بيتي". اذاً لم يعد المساجين من "كبار المشائخ" هم الذين يمسكون بالتنظيم على رغم ريادتهم في الفكرة والعنف والتضحية، ناهيك عن فارق السنّ. لقد امسك "الافغان المصريون" بالقرار، الامر الذي لا يعدم الدلالة: فمجموعة أوروبا، ممثلةً بأسامة رشدي، تدفعها ظروف الاقامة في مجتمعات مستقرة، بما في ذلك اعباء تأمينها وتذليل عقباتها البيروقراطية، وربما ايضاً التأثر بشروط عيشها الجديد، الى التحفظ عن الارهاب الاقصى كما عبّرت عنه حادثة الأقصر، وهو ما يشير الى خطل بعض الحكومات العربية حين تركّز على الاصوليين في المنافي الاوروبية. مع هذا يبقى الكلام على احتكار "الافغان" لقيادة الداخل ونشاطه امراً قابلاً للتحفظ. فجماعة الخارج غير الاوروبي ليست هي نفسها في مأمن. وقصة الناطق السابق بلسان الجماعة، طلعت فؤاد قاسم أبو طلال القاسمي لا تخلو من المعاني. فهذا الناشط الذي انتقل الى الدانمرك بعد مصرع السادات، اختفى في كرواتيا في آب أغسطس 1995، والرواية التي ترددها الجماعات الاسلامية ان القوات الاميركية عثرت عليه هناك وسلّمته الى الحكومة المصرية. والى ذلك فقدت جماعة الخارج غير الاوروبي مواقع عدة، نجم بعضها عن نشاط الديبلوماسية المصرية والبعض الآخر عن احداث داخلية في بلدان الهجرة. فإلى البلدان التي اغلقت ابوابها كباكستان والبوسنة والشيشان وربما السودان، اثر انفجار الحروب الافغانية بين كابول وحكمتيار، ثم بين المجاهدين والطالبان، في الحيلولة دون استقرار الافغان المصريين. ولما كان الاخيرون موزعين على معسكرات متحاربة، فإنهم وجدوا انفسهم يحاربون بعضهم بعضاً، فيما فرّ افراد منهم الى بقع مضطربة في بلدان اخرى بلغت بعشراتٍ منهم اراضي نائية في أفريقيا وأميركا اللاتينية. هؤلاء الطافرون الدوليون، اذا جاز القول، ليسوا الطرف المهيأ لقيادة وتوجيه حركة عسكرية - "سياسية" في داخل مصر، فكيف اذا اضفنا صعوبات اتصال الداخل بالخارج، والعكس بالعكس؟ لهذا يغلب الظن ان رفاعي أحمد طه ومصطفى حمزة انما يحاولان اللحاق بحركةٍ باتت تملك طاقةً للعنف مستقلة وخاصة بها. فمن ايدها استطاع ان يحتفظ لنفسه بموقع قيادي فيها، ومن عارضها تجاوزته ومضت في طريق تحلّلها من كل ما يربطها بالآخرين كائنين من كانوا. وافتراض كهذا يجيز القول ان تأييد الافغان المصريين للمبادرة في حال حصوله، لن يؤدي، بالضرورة، الى وقف العنف. وما يعزز الافتراض ان شبان الارهاب الذي قدّرهم احد الذين تحدثوا الينا ب500 عنصر! يتبعون تنظيمياً صيغة الحلقات العنقودية حيث تتفاوت الحلقة بين خمسة اعضاء وعشرة. ولما كانت السرية التامة تحكم علاقة الحلقات ببعضها، امكن افتراض ظهور قيادات ميدانية في نحو متواصل، تبعاً للتورط بعملياتٍ لا صلة للحلقات الاخرى بها. ولهذا ذهب "التقرير الاستراتيجي العربي" الصادر قبل ايام عن "مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الاهرام"، الى ان الارهابيين ينقسمون الى مجموعات ثلاث هي قدامى المساجين وجماعة أوروبا وجماعة أفغانستان، فضلاً عن الهاربين في الصعيد الذين يتسمون بالتششتت والتشرذم تبعاً لمطاردة السلطة. ولا يغيب الانقسام الاهلي والجهوي عن هذه الجماعات الاخيرة حيث تعمل اهمها تحت قيادة فريد سالم كدواني الذي يُعتقد انه أمير الجماعة في المنيا، ورفعت زيدان أمير أسيوط، ومحمود الفرشوطي في قنا. والراهن ان هذا الانحسار من "تنظيم" الى عصابة مفتّتة قابلة للتحلّل حتى من صلاتها الاقرب، هو ما تؤكده عملية الأقصر نفسها. فعنف التمثيل الواسع النطاق بالجثث، وما فيه من بدائية وثأرية، تدلّ جميعاً على الارتداد الى حقد ويأس اعميين. وهذا ما نجد تعبيراته على مستويات عدة: فالبيان الذي عُثر عليه في موقع الحادثة الدموية حمل عنوان "الخراب والدمار"، ومُهر بتوقيع "كتيبة الخراب والدمار". ولئن خلا نصّه من كل معنى سياسي، فإن "افكاره" الاساسية انحصرت في الدعوة الى الانتقام "لإخواننا الذين قتلهم النظام على اعواد المشانق" و"الثأر لإخواننا الشهداء" وتدمير "اقتصاد كل نظام كافر فاجر" وتخريب "منشآته وكيانه"، واخيراً رفع الموت عالياً حيث ان "باطن الارض خير لنا من ظاهرها" فيما "الموت خير لنا". وفعلاً يتجه الكثير من العمليات الى الاذى لمجرد الاذى، اما بتوجيه ضربة الى الاقتصاد، او الى الاستقرار الامني، او الى صورة البلد من خلال ما سينقله الاعلام ويشيعه. غير ان نزعة الاذى هذه لم تنفصل عن تحولات ميدانية وعسكرية تركت آثاراً ملحوظة: فبعدما بلغ النشاط الارهابي اوجه في 1992 - 93، شرع ينحسر تحت الضربات الامنية الموجعة التي اخرجته كلياً من القاهرة وحصرته في بعض مناطق الصعيد. الى ذلك غدت العمليات العسكرية نفسها تفتقر الى الاعداد الذي عرفته العمليات الاولى. فالاخيرة التي استهدفت بعض السياسيين عاطف صدقي، صفوت الشريف، حسن الالفي وبعض المثقفين فرج فودة كان من النادر ان يُعتقل منفّذوها، كما كانت تتم في العاصمة وضد اهداف محروسة في الغالب ومثيرة دائماً للاهتمام الاعلامي. وفي المقابل دلّت العمليات الاخيرة بما فيها مذبحة الأقصر، على بساطة وعدم اعداد عسكريين كاملين. فالستة الذين نفذوا المجزرة قتلوا جميعاً للتوّ وتبيّن ان واحداً منهم فقط تدرب في أفغانستان. وبالمعنى نفسه وهذا ايضاً ما يقلل من اهمية عناصر الخارج كان معظم السلاح المستعمل في العمليات الاخيرة مسروقاً او مستولى عليه من رجال الشرطة، الامر الذي يستبعد الحاجة الى كبير تمويل. ولنا ان نضيف هنا الصعوبات الطوبوغرافية الملازمة للمناطق التي أجلي الارهابيون اليها. فهم يتوزعون، في الصعيد، ما بين زراعات القصب حيث تصل درجة الحرارة في الصيف الى خمسين درجة او اكثر، لتهبط الى درجتين في الشتاء، وبين كهوف التلال الصعيدية ومغاراتها حيث يستحيل الاختباء بأية "جماهير"... هي اصلاً معادية. وقصارى القول ان العوامل المذكورة عدّلت موضع التركيز في العمليات الارهابية. فكما حلّ الصعيد محل القاهرة، حلّ السياح والاقباط ورجال الشرطة في مواقعهم المعزولة، محل السياسيين وقياديي الامن والمثقفين. وهؤلاء اهداف سهلة وقابلة للمباغتة التي لا تستدعي الاعداد والتخطيط والخبرات العسكرية في آخر المطاف. لقد اضمحلت "سياسية" الجماعة الاسلامية تماماً لمصلحة ما هو عصابةٌ يائسة فيها. وإلا فما تفسير ان الضجيج الكلامي في ما يتعلق ب"اليهود" و"الامريكان" لم يترافق مع عملية واحدة على السفارة الاسرائيلية، او الاخرى الاميركية، علماً ان أمير الجماعة عمر عبدالرحمن قابع في سجون "الشيطان الاكبر"؟