"لا مع سيدي بخير ولا مع ستّي بخير" مثل ينطبق على حزب الكتائب اللبنانية، بحسب ما آل اليه وضعه في المعادلة السياسية اللبنانية القائمة، وان كان رئيسه الدكتور جورج سعادة يرفض هذا التشبيه. فالحزب الذي كان له وزنه جماهيرياً وسياسياً قبل الحرب، وتحوّل خلالها مقرراً وفاعلاً ومحرّكاً ورقماً صعباً، اصبح بعد سنتين على انتهائها، اي منذ العام 1992، مهمّشاً وبعيداً من مواقع السلطة والقرار والشارع، وتأثيره من موقعه المعارض ضعيف، وان كان الدكتور سعادة يرى غير ذلك. والحزب الذي حمل سلّم اتفاق الطائف بالعرض، أعرض اهل الاتفاق عنه وعن غيره حتى أحسّ ان ما رمي به من سهام بسبب مشاركته في وضعه كان صائباً. لكن الدكتور سعادة يقول ان الطائف لا يُنفّذ كما يجب. والحزب ايضاً هجره كثر من العسكر القديم والمخضرم، وغابت عن بيته المركزي وبيوته الكثيرة الوجوه الجديدة، مكتفياً بمن بقي، ومحاولات "لمّ الشمل" لمّا تؤتِ ثماراً. إلا ان الدكتور سعادة، رافع شعار "من المؤسس الى المؤسسة" منذ تولّيه رئاسة الحزب عام 1986، "يتحدى" ان يكون ثمة حزب ليس في لبنان وحسب، بل وفي المنطقة، تنبثق سلطته من قاعدته، كما هي عليه حال الكتائب اليوم. والحزب الذي لا يرى البعض فارقاً بين خطابه السياسي الراهن والخطابات السياسية لأحزاب اخرى كان بالأمس يخاصمها فكرياً وإيديولوجياً وحتى عسكرياً، هل تراه بدّل من جوهر عقيدته لتنتهي الكتائب كما عرفناها، وسط كلام على سقوط كل الأحزاب؟ للدكتور سعادة موقف حاد "فالكتائب لم تتبدّل"، والكتائب "تتعرّض لحملة اقصاء" ضمن "محاولات لتهميش الأحزاب، متعددة الوجوه ومتنوعة الأساليب ترهيباً وترغيباً". لكن الكتائب "حاضرة" للاستحقاقات المقبلة، ولا سيما منها الانتخابات البلدية، هي التي "أقصت نفسها" عن الانتخابات النيابية عام 1992 وفشلت في انتزاع مقعد نيابي واحد عام 1996. و"حاضرة" ايضاً في "دور تقوم به" من اجل حوار سوري - مسيحي "بنّاء وجاد يؤدي الى قيام علاقة سليمة" بين البلدين ... هذه مقتطفات من حديث مع الدكتور سعادة اجرته "الحياة" هنا وقائعه: اين حزب الكتائب اليوم؟ ولماذا حصل له ما حصل؟ هل لأنه "لا مع سيدي بخير ولا مع ستّي بخير"؟ - لا ادري ما المقياس لتصنيف الكتائب هكذا. فهي لا تطلب ان تكون "لا مع سيدي ولا مع ستّي"، انما مع اقتناعاتها والدور الوطني الذي انتدبت نفسها له. يوم كانت في الحكم كانت تعارض ما تراه لا يتوافق مع المصلحة اللبنانية. وإذ هي اليوم في المعارضة، لا تلتزم المعارضة عقيدة ومبدأ، انما تعارض قياساً الى الاعمال. وهذا ما كلّفها الكثير، على ما يبدو.لم تفهم حكومات الرئيس رفيق الحريري موقفنا هذا ولم تقبل معارضتنا. فكانت تتعامل معنا كأن معارضتنا شخصية، وتحمّلنا من اجل ذلك الكثير من الانتقامات والتدابير التي اصابت الحزب مؤسسة، والكتائبيين افراداً. لكن ثمة من يعتبر ان الكتائب "تعاقَب" لعدم مشاركتها، حين كنت تمثلها في حكومة الرئىس عمر كرامي، في توقيع المعاهدة اللبنانية - السورية؟ - لم نوقّع لأسباب منها اننا التزمنا وثيقة الوفاق الوطني اتفاق الطائف وكنا نعارض ما يتعارض معها. وفي شأن المعاهدة، شكلت لجنة في حينه من كتائبيين وغيرهم من اصحاب الاختصاص درست مشروعها النهائي، ووافق عليه المكتب السياسي للحزب، إلا انني فوجئت في اليوم التالي بمجلس الوزراء يُدخل تعديلات على نص المعاهدة، فطالبت بتأجيل إقرارها 24 ساعة لأعود الى المكتب السياسي، سلطة القرار في الحزب، فلم يتجاوب المجلس وأصرّ على إقرار المعاهدة في الجلسة نفسها وبالشكل المعدل، فوجدت نفسي مضطراً الى عدم الموافقة. لكن الكتائب عادت وشاركت في حكومة الرئىس رشيد الصلح، واستقالت منها انسجاماً مع قرارها عدم الاشتراك في الانتخابات النيابية. وقد يكون هذا القرار هو الذي أدى الى القطيعة مع كبار المسؤولين اللبنانيين وإلى التدابير المجحفة في حق الحزب والحزبيين. كيف تصنّف علاقة الحزب اليوم بدمشق، وكان لك اخيراً زيارة التقيت خلالها عدداً من المسؤولين وبينهم نائب الرئىس السوري السيد عبدالحليم خدام والرائد بشار الأسد؟ وهل من دور له في ما يحكى عن حوار مسيحي - سوري؟ - علاقتي بالمسؤولين السوريين لم تتغير ولم تتبدل، لأنها لم تكن مبنية على عاطفة او تبعية، بل كانت منطلقاتها عقلانية ومن ايماني وإيمان الحزب بأن من مصلحة لبنان ان تقوم بينه وبين سورية علاقات مميزة، وفقاً للنص الوارد في وثيقة الوفاق الوطني، ومن منطلق المحافظة على سيادة كل من البلدين واستقلاله. اما الزيارة الأخيرة فكانت لشكر الرائد الأسد والسيد خدام لتعزيتهما لي بوفاة شقيقي المؤرخ فارس سعادة. لكن الاجتماعين لم يقتصرا على الشكليات والبروتوكول، بل تعدياها الى درس العلاقة بين لبنان وسورية والشوائب التي اعترتها مع فئات لبنانية تحرص سورية على ان تكون علاقتها بها سليمة. وقد يكون ثمة حوار مسيحي - سوري، واثناء الاجتماعين تطرقنا الى الموضوع وإلى الدور الذي يمكن الكتائب ان تؤديه، وأخذنا على انفسنا القيام بدور معيّن من ضمن امكاناتنا. من هنا كثفت الاتصالات بالكثير من القيادات الروحية والسياسية اللبنانية وطرحت عليها الموضوع بكل ابعاده، وسرّني ان وجهات النظر كانت متقاربة جداً مع كل الذين التقيتهم، وثمة اقتناع لدى الجميع بضرورة اجراء حوار جاد وبنّاء يؤدي الى قيام علاقة سليمة. من يتحمل مسؤولية ما آلت اليه هذه العلاقة؟ هل المسيحيون وحدهم؟ - لم أقل ان المسيحيين يتحملون وحدهم مسؤولية "خربطة" العلاقة. قد يكون بعض الذين يصنّفون انفسهم على خانة سورية مسؤولين الى حد معيّن عن الحال التي وصلت اليها هذه العلاقة. الكتائب التي نعرفها تعاني انقسامات، فكيف يبدو وضعها عشية انتخابات قيادتها ومكتبها السياسي التي ستجرى في حزيران يونيو المقبل؟ وأين اصبحت المساعي للمّ الشمل؟ - الحزب تأثر طبعاً بالحرب، وقد خاضها وخاضها معه اطراف محسوبون عليه، ولا يزال الرأي العام يحمّله مسؤولية ما نتج عن تلك الأحداث . وخلف ذلك تيارات متنوعة، لأن الذين دخلوا الحزب اثناء الحرب كانوا من تيارات مختلفة ولغايات مختلفة. ومن لم تتحقق غايته تخلّى عن الحزب، ثم ان هناك صراعاً على السلطة، وهو امر مقبول في الاحزاب الديموقراطية. إلا ان ما هو غير مقبول أن يتخلى من لم يتمكن من الوصول الى المركز الذي يطمح اليه، وألاّ يوجه سهام الانتقاد والاتهام الى القيادة الحزبية. اما قضية جمع الصفوف ولمّ الشمل، فلم تترك القيادة مناسبة إلا افادت منها. قامت اتصالات وشكلت لجاناً وعدلّت للنظام الداخلي وطريقة انبثاق السلطة بالشكل الذي كان المعترضون ينادون به. فقد اصبح كل ذلك نظاماً معمولاً به ستجرى الانتخابات هذه المرة على اساسه، وأنا اتحدى، بكل محبة، ان يذكروا لي حزباً واحداً في لبنان او في المنطقة، يعتمد الديموقراطية في طريقة انبثاق السلطة التي نص عليها نظام الكتائب الجديد. هل تترشح الى رئاسة الحزب؟وهل ثمة منافسون لك على الرئاسة؟ - انتظر الاتصالات التي اجريها، وفي ضوء رغبتي الشخصية او عدمها، وفي ضوء تأييد الهيئة الناخبة او عدمه، اقرر. وأناأرحّب بأي منافسة تدل الى ديموقراطية الكتائب، وأهلاً وسهلاً بالجميع. هل تَوَكّل نائب رئيس حزب الكتائب المحامي كريم بقرادوني عن قائد "القوات اللبنانية" المحظورة الدكتور سمير جعجع في دعوى اغتيال الرئيس رشيد كرامي، يدخل في محاولات لمّ الشمل؟ - محاولات لمّ الشمل بدأت قبل توكّل المحامي بقرادوني عن الدكتور جعجع، وما زالت مستمرة بعد التوكيل. فالمحامي بقرادوني أطلع المكتب السياسي على نيّته التوكل عن جعجع، من منطلق مهني، ولاقى ذلك ترحيباً. يلاحظ ان خطاب الكتائب السياسي يشبه خطاب احزاب تختلف عنه ايديولوجياً وفكرياً، في المرحلة الراهنة، ما يبرر كلام البعض على سقوط الاحزاب؟ - ثمة محاولات لتهميش الاحزاب، متعددة الوجوه والأساليب، وفيها الترهيب والترغيب، لكن الاحزاب المتجذرة كالشجرة المثمرة، تسقط بعض ثمارها حين تراشق بالحجارة. والشجرة غير المثمرة لا يرشقها احد. لم ينتهِ اي حزب من الاحزاب التي يتكلمون عليها. فاذا كان المقياس عدد افراد الحزب في المجلس النيابي او في الحكومة، فهذا مقياس باطل، لأن الكتائب عرفت امجادها يوم لم تكن ممثلة لا في المجلس النيابي ولا في مجلس الوزراء. واليوم نقوم بأدوار على مختلف الصعد، ونحن مبعدون عن الحكومة، وكنا ابعدنا انفسنا عن المجلس النيابي الى ان اصبحنا مبعدين عنه. لماذا لم ينجح اي مرشح كتائبي في الانتخابات النيابية عام 1996؟ - لنا على العملية الانتخابية كما اجريت اكثر من علامة استفهام. كان هناك تصميم واضح على إبعاد الحزب عن المجلس النيابي، وفي ذهن من وضع هذه الخطة ان يقصينا بعدما عرض علينا عدد كبير من المقاعد في انتخابات العام 1992 ورفضنا خوضها وأقصينا أنفسنا. لكنك شخصياً كنت في عداد "اللائحة الرسمية" -اذا صح التعبير- في انتخابات محافظة الشمال! - لا اوافق على هذه التسمية. هل يمكن احداً ان يقول لي اي من اللوائح التي خاضت تلك الانتخابات كانت اللائحة الرسمية؟ هل يعتبر الرئيس عمر كرامي المعارض الرقم واحد، مرشح الحكومة؟ وعليه، هل يشارك الحزب في الانتخابات البلدية المزمع اجراؤها هذا الربيع؟ ومع من يتحالف؟ - سنخوضها، علماً ان الطابع العائلي المحلي سيطغى عليها اكثر من الطابع الحزبي السياسي. الكتائب تعودت ان تخوض الانتخابات، في ما مضى، على اساس الدائرة الصغرى، والقواعد الكتائبية ضمن المدن والقرى كبيرة ومحترمة. والانتخابات الرئاسية في الخريف المقبل، هل تجرى؟ ام اننا سنشهد تمديداً جديداً؟ - الاجواء والتصريحات المتكررة للرئىس الهراوي وإعلانه عدم رغبته في التمديد، تنبئ بأن انتخابات الرئاسة الأولى ستتم في مواعيدها المحددة دستورياً، إلا اذا طرأت متغيرات اقليمية ومحلية استدعت غير ذلك. كيف تقوم المناقشات النيابية في جلسات اقرار مشروع الموازنة؟ - ان ما سمعناه وشاهدناه يجعلنا في حالين متناقضتين: فرح بالحياة الديموقراطية المتنامية وحزن للمستوى والتعابير التي بلغتها المناقشات. ثمة قاموس سياسي يجب ألا نخرج عنه، وثمة اتهامات وجّهت الى الحكومة وفضائح عززت بمستندات واخرى اطلقت جزافاً. وكان مفترضاً بالحكومة ان تقارع الحجة بالحجة والمستند بالمستند، فلا تبقي علامات استفهام على اي فضيحة اثيرت. فلو حصل ذلك في اي بلد ديموقراطي يحترم نفسه، لكانت أدت ليس الى تطيير الحكومة وحسب بل والنظام برمّته. هناك ازمات تتحمل مسؤوليتها الحكومة. والتغاضي عن معالجة المعضلات الاجتماعية والمعيشية والسياسية يحدث بلبلة في الرأي العام، لا يمكن ان تستمر طويلاً. وعلى المسؤولين ان يعودوا بالذاكرة الى ما قبل الاحداث اللبنانية ويدرسوا عميقاً اسباب هذه الازمات، فيتبين لهم ان ثمة تشابهاً كبيراً. فالاستفراد يجب ألا يستمر، وتوزيع المغانم بين عدد من المسؤولين يجب ان يتوقف وأن تصحح المسيرة، فالظلم اذا دام دمّر. ولا يمكن اي حكومة ان ترتاح الى قرار انتزعته من المجلس النيابي مسايرة او تودداً. المطلوب ان تحس مع الناس وتسارع الى حل مشكلاتهم، وما اكثرها. هل تقول بتحرك لإسقاط الحكومة؟ - اسقاط الحكومة غير وارد، لا بالتظاهرات والاعتراضات ولا في المجلس النيابي. لكن هذا يجب ألا يفرح الحكومة. اسقاطها اذاً في يد من؟ - الحكومة لا تحكم بثقة الشعب، انما بالثقة الشكلية للمجلس النيابي. يتفق الرؤساء الثلاثة فتمرّ كل الأمور. واذا اختلفوا تتوقف عجلة الحكم، وتبقى متوقفة في انتظار اتفاق جديد يتم على اساس توزيع المغانم. واذا أعيتهم الوسائل احتكموا الى الاخوان في سورية. وصفت الداء ولم تصف الدواء، ما الحل للأزمات التي ذكرت؟ - الازمات الاقتصادية والاجتماعية مرتبطة بالازمة الساسية التي لم يسعَ احد، ويا للأسف، الى معالجتها. فقد توافقنا في الطائف على ان تكون الحكومات حكومات وفاق وطني، لكن ما من حكومة شكّلت في هذا العهد كانت كذلك، حتى تلك التي شاركتُ فيها مرغماً. وبصراحة، فاللبنانيون كانوا منقسمين تيارين كبيرين، والاحزاب تواجهت في خندقين متقابلين. هنا مسلمون مع قلة مسيحية، وهناك مسيحيون مع قلة اسلامية. وجاءت الحكومة لتكون من فريق واحد، في غالبيتها، مع تشكيلات صغيرة لا تقدّم ولا تؤخّر. والحل في نظري ان نعود الى تشكيل حكومة وفاق وطني حقيقية وواقعاً من دون تشاطر او تفسيرات. فالمطلوب ليس توازناً في الحكومة على الصعيد الطائفي، انما توازن سياسي، وحكومة من هذا النوع تساعد كثيراً على حل كل الأزمات. كيف تقوّم ما حصل اخيراً في بعلبك؟ - لطالما حذّرنا مما وصلنا اليه نتيجة استمرار بعض البؤر الأمنية عاصية على القانون والدولة. نحن دائماً الى جانب مطالب اللبنانيين، معيشياً واقتصادياً وانمائياً، لكننا اعترضنا ونعترض على الطرق المعتمدة لمعالجة الوضع في بعلبك، اذ لا يجوز، تحت ستار الجوع والمطالب الشعبية ان تعلن مناطق محظور دخولها على المسؤولين، وعاصية على القانون، والأغرب التعرّض للجيش اللبناني الذي نتفهم اجراءاته لضبط الوضع بسلاح يصنّف في خانة سلاح المقاومة. اخيراً، ثمة من شبّه الكتائب بسيارة تدهورت وتعطلت ولم يبقَ سليماً فيها إلا الراديو. وحتى الراديو اليوم، في ضوء تنظيم الإعلام المرئي والمسموع، لم يعد ملكاً لها؟ - أجبت عن هذا السؤال قبلاً. فالسيارة لا تزال تسير، وان كان عدد ركابها نقص لأسباب متنوعة، وهذا لمصلحة الحزب الذي يشكو من الورم لا من الصحة. وأبشر من ينتقد توقف السيارة القديمة، بأن في سوق السيارات بحثاً دائماً عن السيارات القديمة التي اثبتت الايام انها اكثر مناعة من الجديدة على رغم زخرفتها وأناقتها. والراديو؟ - ستبقى اذاعة "صوت لبنان"، ولا يهمنا الى من آلت ملكيتها، ستبقى صوتاً للبنان، وهذا ما نسعى الى المحافظة عليه، والكل يعلم ان قانون الاعلام المرئي والمسموع صدر خلافاً لما ورد في وثيقة الوفاق، ونحن نلتزمه مرغمين في انتظار ان تعود الامور الى مسارها الطبيعي ويعود الحق الى اصحابه.