"دفع مسلمو اريتريا الثمن وحدهم، عندما جمّدت اميركا الصراع بين العرب واسرائيل في البحر الاحمر بتبني مشروع استقلال اريتريا". جاء هذا الكلام على لسان احدى الشخصيات الاريترية ممن يعيشون خارج بلدهم، بعد ان رافق حركة الكفاح المسلح منذ بداياته الأولى، وامتنع المسؤول الاريتري عن ذكر اسمه لأن الوقت لم يحن بعد، حسب رأيه، لكشف بقية الحقائق التي أدت الى هذه النتيجة. وحين سئل عن رأيه بالتحرك الجديد الذي يقوم به الاريتريون لتشكيل تجمع للمعارضة يضم كل الاتجاهات لاستبدال نظام الحزب الواحد في اسمرا بنظام يقوم على التعددية والديموقراطية؟ قال انه يراقب هذا الامر من بعيد. ويبدو ان المشروع الاميركي الذي كان هدفه خلق توازن جديد بين العرب واسرائيل في البحر الاحمر، بدأ يفرز مشاكله الجانبية، مثل كل المشاريع التي تتجاهل مصالح فئات كبيرة من المجتمعات، او تخلق ضحايا من بين الدول المجاورة. بدأ الاريتريون الكفاح المسلح عام 1961 لتحرير اريتريا من الاستعمار الاثيوبي، ويجدون انفسهم بعد ثماني سنوات من الاستقلال، الطرف الخاسر في عمل تاريخي صنعوه وقدموا الضحايا من اجله، لأنهم حسب صحيفة "صوت اريتريا" المعارضة التي تصدر في ألمانيا ما زالوا يعيشون في المنافي، وأهاليهم الذين لجأوا الى شرق السودان هرباً من غارات هيلا سيلاسي، ثم منغستو هيلا مريام، ما زالوا يعيشون في المخيمات وترعاهم هيئات الغوث والإحسان الدولية، بينما ترفض حكومة اسمرا عودتهم. اضافة الى حوالى عشرة آلاف مواطن ممن دخلوا اريتريا للمساهمة في بناء الدولة المستقلة، بعد ان تعهد الرئيس الاريتري اسياس افورقي لبعض الرؤساء العرب بفتح كل فرص المشاركة لهم والاستفادة من خبراتهم، عاد قسم منهم خائباً، وبقي عدد آخر في السجون. اما البحر الاحمر ذاته، فالنيران ما زالت تشتعل في الصومال، والسودان مهدد ويعيش في حال اضطراب، بينما فقدت جمهورية اليمن جزيرتين من جزرها، حنيش الصغرى وحنيش الكبرى. ويؤكد معظم الاريتريين الذين تم الاتصال بهم في أوروبا والمنطقة العربية ان تحركهم الجديد سيكون سياسياً، وسيعقد المؤتمر في نيسان ابريل المقبل، هدفه الاخير الاتفاق على ميثاق عمل وطني لمعارضة تسعى الى اقامة الديموقراطية والتعددية في أريتريا، ومطلب الديموقراطية يستوجب عملاً سياسياً في الدرجة الأولى. الا ان هذه التأكيدات لا تمنع من انفجار شرارة كبيرة على الساحل الغربي من البحر الاحمر، ويخشى البعض ان تكون طائفية. التطورات المقلقة في الفترة الاخيرة ظهرت ثلاثة تطورات، اقلقت المسلمين الاريتريين وحملتهم على الاسراع في التهيئة لمؤتمرهم التوحيدي، ولدى الحديث عن مسلمي اريتريا يجب التمييز بين التطرف الذي اتسمت به بعض الحركات الاسلامية افغانستان - الجزائر - مصر وبين هوية الاسلام المرتبطة بسكان المنطقة الغربية والساحل في اريتريا. فالجغرافية الاجتماعية لهذا البلد تقوم على ثقافتين، اسلامية ومسيحية، وإذ ينتشر المسلمون في المنطقتين المذكورتين، تزداد كثافة المسيحيين في المرتفعات ذات الأراضي الخصبة والامطار الكثيرة. وعلى رغم ظهور حركة "الجهاد الاسلامي في أريتريا" كتنظيم مسلح، متشدد، الا ان مسلمي ارتيريا علمانيون في غالبيتهم، سادت تنظيماتهم في فترة الكفاح المسلح اتجاهات يسارية وليبرالية. ظهرت حركة الجهاد عام 1988، كرد فعل لسيطرة "الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا" على الساح، بعد تلقيها امدادات بشرية وعسكرية كبيرة من جبهة تحرير اقليم التغراي، وهو اقليم اثيوبي، وظلت حركة الجهاد تنمو وتكسب المؤيدين بعد الاستقلال مع بروز توجهات طائفية لدى حكومة الجبهة الشعبية، ومع تذمر المواطنين من الارهاب الذي شمل الجميع، بمن فيهم المسيحيين، وأثار بالتالي انتباه منظمات حقوق الانسان الدولية، ثم حكومات السوق الأوروبية التي تقدم الدعم الاقتصادي لحكومة اسمرا، ما دفع بالحكومة الاميركية الى الضغط على الرئيس الاريتري السماح بقدر معقول من التعددية في الحكم، خصوصاً لدى زيارته الاخيرة الى واشنطن في العام الماضي. منع العربية من التدريس التطورات التي اقلقت الاريتريين تمثلت في خطوات اتخذتها حكومة الجبهة الشعبية في اسمرا تباعاً: الخطوة الأولى كانت منع تدريس اللغة العربية، ومنع استعمالها في المعاملات بين المواطنين ودوائر الدولة، واعتماد اللغة التغرينية وحدها، وهي لغة نصف الاريتريين، وكان هيلا سيلاسي وافق على اعتماد اللغة العربية والتغرينية في التعليم والمعاملات في اريتريا، كلغتين رسميتين بعد الاحصاء الذي اجرته الأممالمتحدة عام 1948 وظهر فيه ان المسلمين يشكلون 60 في المئة من السكان. واللغة العربية هي أداة تخاطب نصف البلاد، ورمز ثقافته الدينية، وتشير الى روابطه التاريخية مع الجزيرة العربية، لذلك يشعر المسلمون الى ان هذا القرار يهدف الى طمس هويتهم. الاحصاء العام عندما اعلنت حكومة اسمرا خطتها لإجراء احصاء عام للسكان في اواسط هذا العام، تأكدت المخاوف لأن وجود ما يقارب ثلاثة أرباع المليون مسلم في الخارج من ثلاثة ملايين هم سكان اريتريا يكشف عن وجود رغبة واضحة في تغيير الهوية الثقافية لأريتريا. وفي هذا المجال تشير مصادر الأممالمتحدة هيئة غوث اللاجئين الى وجود 380 الف لاجئ في مخيمات ترعاها الهيئة في شرق السودان، بينهم 10 في المئة من المسيحيين وتقدر المعارضة الاريترية عدد المسلمين الذين يعيشون في أوروبا وكندا واستراليا والمنطقة العربية ممن يخافون العودة بسبب الارهاب، او ممن دخلوا اريتريا بعد الاستقلال ثم هربوا منها، بثلاثة أرباع المليون. ومهما استخلصنا من هذه الأرقام تظل امكانية التلاعب في الاحصاء قائمة، اذا اضفنا الى ذلك نقطتين مهمتين: الأولى، ان غالبية سكان اريتريا يعيشون في مناطق رعوية، وأخرى صحراوية، من السهل عدم ادراجها في قوائم الاحصاء بسبب تنقلاتها والمسافات الكبيرة التي تفصل بينها. الثانية، ان حكومة الجبهة الشعبية منحت الجنسية الاريترية لعدد لم يعرف حتى الآن من سكان اقليم تغراي الاثيوبي، ووطّنتهم في مناطق زراعية تركها سكانها هرباً من سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها هيلا سيلاسي عام 1968، ثم عاد اليها منغستو هيلا مريام في 1976 - 1977. وفي الوقت نفسه وطّنت عدداً كبيراً من سكان المرتفعات الاريترية ذات الكثافة السكانية العالية في أراضي اخرى ما زال اصحابها يعيشون في مخيمات اللاجئين بالسودان. وفي هذا الصدد يقول لازار ايلوندو، وهو خبير تنموي لدى الاممالمتحدة في تقرير قدمه الى مؤسسة التنمية الألمانية بعد زيارة اريتريا، ان كل الذين زارهم من المستوطنين الجدد في هذه الأراضي لديهم شعور واحد، هو ان من حقهم امتلاك هذه الأراضي. التحرك الاميركي التطور الثالث الذي أقلق الاريتريين الاتصالات التي اجراها عضو في الكونغرس الاميركي باثنتين من التنظيمات المعارضة في واشنطن، وعرض مشروعاً للمصالحة مع حكومة الجبهة الشعبية، وطلب مقابل ذلك اجراء تغييرات جوهرية على شعاراتها خصوصاً تلك التي تتعلق بالروابط التاريخية بين الاريتريين والعرب، والكف عن التطرق الى البحر الاحمر كبحيرة عربية، لأن هذه الشعارات تقلق اسرائيل. وتم الحصول على نسخة من البرنامج السياسي الجديد لأحد تلك التنظيمات، بعد ان اجرى تحويرات جوهرية على الفقرة الخاصة بموقف التنظيم من دول المنطقة، اذ استبدل عبارة التأكيد على علاقة شعب اريتريا التاريخية بالعالم العربي والاسلامي بعبارة الصداقة مع دول الجوار. واختفى ايضاً البند القديم الخاص بحق شعب اريتريا في الحصول على عضوية الجامعة العربية. ويحيل التحرك الاميركي من جديد الى كلام الشخصية الاريترية الذي ذكرناه. فعلى رغم موافقة ذاك التنظيم على الطرح الاميركي، يرفض بقية الاريتريين فكرة التخلي عن ثقافتهم وروابطهم التاريخية، لأن هذا يؤدي الى طمس هويتهم. فالاولاد يتعلمون منذ ثماني سنوات اللغة التغرينية وحدها. وخلال جيلين سوف يتشبعون بثقافة مختلفة وينسون اصولهم ولغة آبائهم، وهذا جزء من شروط التسوية في الشرق الأوسط، وهي شروط غير انسانية، اذ لا توجد دولة في العالم يتطلب امنها القضاء على الثقافة وأصول الشعوب الاخرى الا اسرائيل، ولا توجد دولة تقبل هذا المنطق وتعمل بموجبه الا اميركا. من الواضح ان تل أبيب تخفي وراء مطالبها الأمنية رغبة ابعد، اذ تشعر الحكومات الاسرائيلية، وكل رؤسائها ضباط عسكريون استراتيجيون، ان قوة اسرائيل العسكرية المميزة تؤهلها لدور مؤثر في ميزان القوى الدولي، من خلال بناء نوع من النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي في افريقيا والشرق الأوسط، يشجعهم على ذلك وجودهم بين شتات من الدول في منطقة تكثر فيها الفوضى السياسية، ويغلب التخلف على مجتمعاتها، تديرها حكومات عاجزة عن تثبيت الاستقرار والنمو الذي تطمح اليه شعوبها، وتعاني غالبية هذه الشعوب من نسبة عالية من البطالة، ونسبة اعلى من الفقر. وكانت اريتريا تجربة مثالية للحلم الاسرائيلي، واحتلت حكومتها، على رغم ولادتها الجديدة بعد الاستقلال، جزيرتين شمال باب المندب، وهذا يعني ابطال دور المنفذ الشبح في جنوبالبحر الاحمر، الذي كان العرب يلجأون اليه في الازمات لمضايقة التحركات العسكرية في الجنوب. ومن خلال ميل حكومة اسمرا الحالية الى صداقة تل أبيب، تلعب اسرائيل الآن دوراً مباشراً في الاحداث الجارية في القرن الافريقي، من الصومال الى السودان. وتحرص واشنطن على سلامة الحكومة الاريترية امنياً واقتصادياً، لتخفيف شعور اسرائيل بما تسميه الطوق المعادي، الذي يستنزف اكبر حصة من المساعدات الاميركية سنوياً. وتقول مصادر قريبة من النظام في الخرطوم، ان السودان الذي يملك قوة عسكرية لها خبرة جيدة، يستطيع ارسال فرقتين عسكريتين تكفيان للتوغل جنوباً داخل اريتريا حتى مشارف اسمرا، لكن الحدود السودانية مراقبة بدقة من الفضاء، ويكفي دخول كتيبة سودانية صغيرة داخل الأراضي الاريترية، ليكون لدى واشنطن ذريعة لضربة عسكرية توجه الى السودان من النمط الذي تعرض له العراق. الغضب الحزين ويشعر الاريتريون الآن بنوع من الغضب الحزين، لأن مفاتيح الصراع والاحداث اصبحت خارج ايديهم. فهم يعترفون ان خلافاتهم وحروب التصفيات التي خاضوها بتشجيع من موسكو وبعض الفصائل الفلسطينية آنذاك، هي التي اضعفتهم، وسمحت بظهور الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا عام 1987، ثم تمكنها من بناء قوة عسكرية بسرعة غريبة لتحسم الصراع مع اثيوبيا. الا ان خطأهم هذا لا يبرر ادراج القضية الاريترية ضمن صفقة تسوية الصراع في الشرق الأوسط، وقبول الامر. فثقافتهم التاريخية مستهدفة الآن في الدرجة الأولى، وهم يخشون من امتداد تأثير حركة الجهاد الاسلامي الى اللاجئين والمنفيين، خصوصاً الشباب منهم، مما يصبغ قضيتهم الجديدة بصبغة التطرف، ويهدد مجتمعهم بالتشدد الديني، وينذر فوق كل شيء بحرب طائفية لا يتمنونها بقدر ما يطالبون باشاعة الديموقراطية والسماح بالتعددية ورفع شبح الارهاب وديكتاتورية الحزب الواحد.