"ان الخرق الملموس لقرار وقف النار الذي صدر تحت رقم 687 في 3/4/1991 وأنهى حرب الخليج الثانية يعني ان العراق غزا الكويت مرة اخرى. وقف النار تقرر عندما اخمد العدوان وطرد العراق من الكويت. وكان هذا هو السبب في اجازة استخدام القوة اصلاً...". هذا بعض ما اورده المندوب الروسي لدى الاممالمتحدة تعليقاً على التحضيرات الاميركية لضرب العراق مجدداً. والحديث، اصلاً، ورد في سياق تعارض حاد في الرأي بين الاميركيين والروس. فالاميركيون يرون ان ما يجري حالياً انما هو استمرار لوضع العراق المخالف لقرارات الاممالمتحدة ذات الصلة منذ العام 1991. وعلى هذا الاساس فإن الضربة الاميركية، ولعلها تصبح حليفة مع بريطانيا وغيرها، ليست بحاجة الى قرار تنفيذي جديد يفوّض الدول الاعضاء او يكلفها فرض هذه القرارات الدولية على العراق بالقوة. ثم ان مجلس الامن ذاته سبق ان اصدر قراره الرقم 1137 بتاريخ 12/11/1997 وفيه ادانة كاملة لكل القرارات العراقية المخالفة وانذار جدّي بالعودة عنها واتخاذ تدابير زاجرة اذا استمر العراق في التمادي بمخالفاته والتحدي للقرارات الدولية. وكذلك اصدر مجلس الامن، بعد القرار 1137، عدداً من البيانات الرئاسية التي عكست آراء جميع الاعضاء الدائمين وأكدت مواقفهم. وخلاصة هذه البيانات إنكار كامل للمخالفات العراقية وإنذار شامل للعراق بالعودة عنها تحت طائلة التدابير العقابية المناسبة. غير ان المبدأ القانوني الدولي يغاير هذا الرأي الاميركي في أصول العقاب وفي توقيته وحجمه. ذلك لأن الاجراءات الزاجرة التي يتخذها مجلس الامن بالاستناد الى الفصل السابع من ميثاق الاممالمتحدة تستلزم، لتطبيقها العملاني اللوجستي قرارين اثنين: الاول يعمد الى توصيف الوضع او النزاع او المخالفة ما اذا كانت تهديداً للسلام او انتهاكاً له او عملاً عدوانياً بموجب الفصل السابع، ويوجّه الانذار المناسب الى الدولة المعنية. حتى اذا أصرّت هذه الاخيرة على موقفها المخالف للقانون ولم تمتثل للقرار، يصدر المجلس قراراً ثانياً يفوّض، بموجبه، الدول أو يكلفها تنفيذ قراره الاول بالوسائل المتاحة بما في ذلك الاجراء العسكري. وهذا ما اعتمده مجلس الامن لغاية اليوم بالنسبة الى كل الاجراءات العسكرية التي اتخذها خلال التسعينات. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: - القرار 660 في 2/8/1990 الذي طالب العراق بالانسحاب الفوري وغير المشروط من الكويت. ثم القرار 678 في 29/1/1990 الذي "فوّض الدول"، بالتعاون مع حكومة الكويت، تطبيق القرار 660. - القرار 775 في 28/8/1992 الذي طلب وقف اطلاق النار في الصومال. ثم القرار 794 في 3/12/1992 الذي كلّف الدول اتخاذ كل الوسائل الضرورية لتوفير بيئة آمنة لتقديم المساعدات الانسانية لهذا البلد. - القرار 933 في 15/7/1994 الذي استند الى الفصل السابع وطالب بعودة السلطة المدنية المنتخبة الى الجزيرة. ثم أصدر القرار الرقم 940 في 31/7/1994 الذي دعا، بموجبه، الدول باتخاذ الاجراءات المناسبة لتنفيذ قراره الأول. مما تقدم يتضح أن العملية الأميركية العسكرية ضد العراق، بسبب مهمة فرقة التفتيش الدولية، تستلزم قراراً جديداً من مجلس الأمن الدولي يفوّض أو "يكلف" أو "يدعو"... الخ الدول لتنفيذ مطالب مجلس الأمن التي أصدرها في قراراته ذات الصلة. إلا ان الذريعة التي استندت اليها الولاياتالمتحدة أكدت/ أو سبقت الاشارة الى، ان الموقف العراقي الراهن لا يزال على حاله في رفض الامتثال الى القرارات الدولية. كما ان موضوع الاجراءات الزاجرة التي اتخذها مجلس الأمن أو قد يتخذها لم يتغير منذ اجتياح الكويت في العام 1990. ولذلك فإن تحرك الولاياتالمتحدة، اليوم، لا يستدعي أي قرار جديد بعدما خرق العراق قرار انهاء الحرب وإلقاء تبعات معينة عليه بما فيها صلاحية التفتيش والتدمير لأسلحة الدمار الشامل... كذلك سبق للولايات المتحدة ان قامت بعمليات عسكرية ضد العراق كضربة الصحراء مثلاً أو هدّدت بالقيام بمثلها على أثر القرار 949 الذي طلب من العراق إعادة الجيش العراقي إلى ثكنه، ولم تستند الولاياتالمتحدة الى قرار ثانٍ من المجلس يومذاك. إلا ان الواقع يختلف عما تتذرع به الولاياتالمتحدة، إذ أن الوضع، اليوم، يختلف عما ذكرته قرارات العام 1991 في موضوعها ونتائجها. فاليوم ثمة حالة مختلفة عما كانت عليه بين العراقوالكويت. والكويت، اليوم، غير معنيّة بالنزاع. وبالتالي فإن ثمة حاجة الى قرار جديد لمجلس الأمن يجيز استخدام القوة لتنفيذ قراره ضد العراق. ولعل ما حدث في البوسنة يشكل سابقة مماثلة لهذه الحالة: فقد صدر القرار 824 عن مجلس الأمن بتاريخ 6/5/1993 الذي قضى بإقرار المدن أو المناطق الآمنة في البوسنة وضرورة حمايتها بواسطة قوات الأممالمتحدة الموجودة هناك بموجب قرار من مجلس الأمن مستند الى الفصل السابع. وعندما لم تستطع هذه القوات حماية المدن الآمنة برزت الضرورة الى استخدام سلاح الجو لهذا الغرض. عندها اصدر مجلس الأمن قراراً جديداً، هو القرار 836 في 4/6/1993 وكلّف الدول الاخرى والمنظمات الاقليمية - في اشارة الى منظمة حلف الاطلسي الناتو - استخدام القوة الجوية لحماية المدن الآمنة في البوسنة وقصف الذين يعتدون عليها. وكان القرار 836 ضرورياً على رغم ان الاوضاع والمكان البوسنة والظروف لم تتغير. ويلاحظ، فضلاً عن ذلك، ان القرار الأخير الذي صدر عن مجلس الأمن بصدد العراق وإدانة القرارات التي يتخذها لاعاقة فريق التفتيش الدولي او منعه من اداء مهماته بالحرية والمناخ الطبيعي المفروضين... هذا القرار الرقم 1137 الصادر في 12/11/1997 يطلب من العراق، تحت طائلة الاجراء العقابي اللازم، تسهيل عمل فريق التفتيش والتعاون معه من دون شروط ولا قيود. ويؤكد القرار 1137 في الفقرة الثامنة منه ان المجلس "يعرب عن عزمه الأكيد على اتخاذ تدابير اخرى قد يقتضيها تنفيذ هذا القرار". وهذه الفقرة تعني بوضوح ان المجلس ذاته سيتخذ هذه التدابير وبموجب قرارات مباشرة منه من دون ان تتخذها اي دولة أخرى بالنيابة عنه. ولم يصدر لغاية الساعة مثل هذا القرار المطلوب. وعلى رغم بعض الانتقادات الدولية التي صدرت بالماضي ضد ضربة الصحراء وضد التفسير الاميركي للقرار 949، وضد التذرّع الاميركي بحق الدفاع عن النفس، الذي اقرّه ميثاق الأممالمتحدة في المادة 51 منه... على رغم كل هذه الانتقادات فإن موقف الدول الأخرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن لم يتعدَّ يومها بعض التعليقات الصحافية والخجولة احياناً من دون ان تتفاعل جدياً في أروقة مجلس الأمن ولا في سواها من المحافل الدولية النافذة. واليوم تشهد الساحة الديبلوماسية الدولية مشهداً مماثلاً. فالمعارضة الروسية - الفرنسية - الصينية للموقف الاميركي حيال العراق لم تصل الى مجلس الأمن ولم تتجاوز إطار التصريحات الصحافية. وبصرف النظر عن مصلحة الدول المعترضة في انتقاد التصرف الاميركي لكي يمارسوا دورهم من خلال ما يملكون من فيتو في المجلس... على رغم كل ذلك فإن المصالح الخاصة لهذه الدول الأخرى تمنعها من الاعتراض الفاعل وتحول دون التمكن من المشاركة النافذة بالقرار السياسي الدولي العام. تبقى مسألة العقوبات الدولية وآثارها الظالمة التي لا تميّز بين الشعب والنظام السياسي الذي يحكمه ويتحكم بكل مقدراته. وقد اثبتت هذه العقوبات، حتى الآن، فشلاً مزدوجاً. فإذا كان الرهان، من خلالها، هو التوصل الى اذعان النظام السياسي المخالف واجباره على الامتثال للقرارات الدولية فقد سقط هذا الرهان في غير مكان في العالم منذ الستينات حتى نهاية التسعينات. والعكس هو الذي حصل. إذ أن الأنظمة تتخذ شعوبها متاريس وملاجىء تحمي نفسها بها. وتشحن هذه الشعوب بما يناسب مصالحها وبما يوفر لها احتواء كاملاً وربما سحقاً كاملاً للمعارضة الداخلية. واذا كان الرهان، من خلال هذه العقوبات، يتجه الى دفع الشعوب لتغيير قياداتها السياسية والعسكرية فلعل هذا الأمر يصح حيث يتاح للشعوب المشاركة الانتخابية الصادقة واتخاذ القرار المناسب. الا ان الذي حصل ايضاً هو ان هذه الشعوب وفي طليعتها الشعب العراقي أصبحت ضحيّة حكامها وضحية معاقبيهم في آن معاً. والواقع ان القانون الدولي حرص، منذ محاكمات نورمبرغ في منتصف الأربعينات، على اعتبار الفرد مسؤولاً عن المخالفات المرتكبة ضد القانون الدولي. وقد تطوّر هذا القانون فبات يشمل الآن اي فرد من الافراد تثبت جريمته امام القانون الدولي وبصرف النظر عن مركزه، بدءاً برئيس الدولة ذاته. والسؤال الملح الآن: لماذا لم يعمد مجلس الأمن الدولي لغاية الساعة الى تأليف محكمة خاصة دولية على غرار ما فعل بالنسبة الى يوغوسلافيا السابقة ورواندا تحاكم الافراد الذين ارتكبوا جرائم حرب او جرائم ضد الانسانية في العراق. ألا يشكل ذلك ضغطاً على النظام العراقي من دون ان يتعرض شعب العراق، بأطفاله ونسائه وشيوخه، للمآسي المتواصلة التي تسببها العقوبات الجماعية... ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً هنا: هل تريد الولاياتالمتحدة فعلاً التخلص من النظام العراقي الراهن؟..