"هذه هي النهاية، أيا الصديق الجميل. إنّها النهاية، يا صديقي الوحيد، نهاية كلّ مشاريعنا، النهاية لكلّ ما هو معقول وله معنى، النهاية لا مفاجأة ولا أمان، النهاية. سوف لن أنظر في عينيك ثانية. أيمكنك تصوّر ما الذي سنؤول إليه، طلقين لا حدّ لنا، محتاجين بكل يأس إلى يدِ غريبٍ في بلد مُستيئس؟" صباح آخر استيقظُ فيه شاعراً أن العالم تافه وغبي ولا حل له. لِمَ كل هذه الكتابات، هذا التكافح بين المثقفين وتيّار النسيان يجرف كل شيء في الوقت المناسب؟ متى ستكون لنا حركة، سطحٌ وحوشٌ، عود إلى حياة طبيعية؟ متى سيعرف الغمام أنه يحوي المطر؟ أسئلة ضحائية لها الوقع الأوديبي الصارخ والممزق لأغنية جِم موريسن "هذه هي النهاية"* التي تتوجسها أذُني من مذياع بعيد. نوافذ الحيّ كلها مغلقة. لكن، كما يقول بودلير: "إن هذا الذي ينظر إلى الخارج من خلال نافذة مفتوحة، لن يرى من الأشياء بقدر ما يرى مَن ينظر إلى نافذة مغلقة". كم جميلة هذه المرأة التي تزور صدريتها أمام المرآة. وذاك الرجل الذي يشد خيطان حذائه المثقوب. أتحسس حالة نفسية غير معهودة هذا الصباح وأنا أشرب القهوة جالساً في الشرفة، أتصفّح كتابَ صورٍ قديمة: شوارع يصعب الآن التعرف إليها، مقاه اغلقت كانت تضج بالحركة في ما مضى، مراكب نحلم أن تأخذنا إلى ما وراء الآفاق، شحاذون يؤوبون كالفَرَاش إلى أعمدة الضوء، لمعان الساقية عند الغروب، بائعات هوى كان لهن عطر لا يزال يفوح من صورهن يذكّر بخبايا لم يعد لها وجود إلا في شعاب الحافظة. أفكر بالموتى، بأولئك الذين ماتوا من أجل القضية، الذين لو كانوا يعرفون عند خوض المعركة، ما سيؤول إليه تخيّلهم الباطل من كوارث، لكانوا انتهزوا الفرص التي تراءت أمامهم منذ التقسيم فصاعداً. ولكن، عندنا، أوان تتوقع الأرض رشد أهلها السياسي، تأتي الخيبة كثيرة الرماد! أولئك الذين انفجروا عن ايمان بوجه المحتل غير عارفين أن دباباته كانت ترقعّنا سلفاً وكأنها آلة كاتبة وأراضينا أمتار من الورق. بل لم يدروا أن سمكة صغيرة ستكبر وتكبر فتلتهم كل شيء: أرضهم، أحلامهم، مستقبلهم... مئات الآلاف ماتوا سدىً، نُفضت من ترابهم يدُ التاريخ. ناهيك ان آلافاً أخرى ستموت بلا معنى أيضاً، وستكفن بالنسيج نفسه المحضّر من سلك البلاغة عينها، يا للبؤساء. فعلامَ موتهم؟ وفوق الثرى لا تنمو سوى أعشاب الثأر الضارة، وليس نبات الذاكرة المنشودة - شعاع المحرقة الذي تستضيء به كل مأساة. كم كانت التربة خصبة، وكم كانت الأرجاء تنتظر بفارغ الصبر هطول "مطر الصيف" علّ الزهرة تتفتح قبل قدوم الربيع. أمِن عربة تعود بنا إلى لجج البدء حيث كانت لنا إرادة الاختيار بين هذا الكابوس وذاك الحلم، فنستأصل شأفة الحتمية المميتة هذه؟ كان هناك مثقفون مدججون بطاقة الهواء المندفع من مغاور المعرفة، قادرون على أن يغيّروا مسار المنطقة نحو الأفضل لو لم يُسيروا جنوداً في حروب الأوهام، آه! لو ضخّوا آنذاك دمَ المسؤولية في أوقيانوس الفعل والايحاء، أكسير الرؤيا المتأنية في مَلَكة الادراك قبل حمل السلاح، بل كان في امكان هذه الحشود الراقدة تحت التراب الآن أنْ... آه! لو فقط... لكن "القاتل استيقظ قبل طلوع الفجر، احتذى جزمته، استعار وجهاً من صور المشاهير القديمة، وسار طوال البهو. ذهب إلى الغرفة حيث كانت أخته تعيش، ثم زار أخاه، ثم طفق يتابع السير طوال البهو، وإذا به بباب، فأخذ ينظر إلى الداخل، - أبتاه؟ - نعم يا بني. - أريد أن أقتلكَ. أماه، أريد أنْ...". انقضت ساعات وساعات، وموج الأسئلة العاتي يتقاذفني، رحت اتشبث بكل جواب يطفو، بينا الليل كان يتشظى بالنجوم. وجدتني محاطاً بأخيلة تقوم من قبر الانخطاف. انتفضتُ فجأة فاركاً عيني... وإذا بيّ أرى ظلالاً مديدة تتساقط فوقي من نافذة شقة لا أعرف إن كان يسكنها رجل، امرأة أو شبح أحد الذين ماتوا خلف متاريس زمنٍ جُرّ عليه ذَيلُ الفَوْت؟ * "هذه هي النهاية" التي اقتبس منها مقطعين، أغنية مشهورة لجِم موريسن 1943 - 1971.