كان الشاعر الإنكليزي اليوت يردد ان كل عمل مترجم يجب ان تعاد ترجمته كل عشر سنوات. فالأعمال المترجمة تشيخ غالباً إلا اذا كانت تضاهي الأعمال الأصلية إبداعاً. والترجمة اصلاً تختلف من مترجم الى آخر فهي اقتراح غير نهائي وقابل دوماً للنقاش والنقد. الشاعر فؤاد رفقة عمل بنصيحة اليوت وأعاد ترجمة "مراثي دوينو" ولكن بعد مرور قرابة الثلاثين عاماً على صدورها الأول. و"مراثي دوينو" هي من أهم القصائد التي كتبها الشاعر الألماني ريلكه 1875 -1926 بل من أهم المحطات التي عرفها شعره إذ طرح فيها خلاصات تجربته الميتافيزيقية والوجودية. ولعل صدورها في كتاب مستقل باللغة العربية دار صادر، بيروت يمنحها هالتها المفترضة خصوصاً ان الترجمة الجديدة بدت مختلفة عن الترجمة الأولى التي صدرت سنة 1969. فالشاعر فؤاد رفقة أعاد صوغ المراثي معتمداً بعض التراكيب المختلفة والمفردات ومنحها نفساً شعرياً رثائياً وميتافيزيقياً. وليس من المستغرب ان يعيد رفقة ترجمة هذه المراثي ففي فرنسا مثلاً تتوافر صيغ كثيرة لها وهي تختلف بعضها عن بعض حتى يحار القارئ اي الصيغ هي الممكنة او الأوفى للنص الأصلي. فالمراثي هي اقرب الى القصائد المغلقة وتحتاج الى قراءة متأنية ومزدوجة: قراءة خارجية وأخرى داخلية. فهي تحمل الكثير من الرموز والرؤى وتغوص في ليل العالم وليل النفس الانسانية لتكتب "ميثولوجيّة" الكائن المعاصر الذي يعاني الألم والقلق ويحسّ انه موزع بين قوتين تتجاذبانه: الموت والحياة. تمثّل "المراثي" اذن آخر المراحل التي اجتازها ريلكه وأهم المراحل ربما. وأخذت هذه المراثي عنوانها من قصر "دوينو" في إيطاليا حيث شرع ريلكه في كتابتها سنة 1912 ثم توقف لينهيها سنة 1922 في قصر آخر في موذو سويسرا ومعها أنهى "اغنيات الى اورفيوس" قبل وفاته سنة 1926. ويروي ريلكه ان مطلع المرثية الأولى تناهى اليه فيما كان يتنزه بين صخور مدينة دوينو. سمع صوتاً في الريح يملي عليه هذه الكلمات: "مَنْ اذا صرخت، يسمعني؟". وكان عليه ان يكمّل المرثية الأولى انطلاقاً من هذا المقطع في اليوم نفسه. اما المرثية الثانية فكتبها بعد فترة قليلة. اما الثالثة فكتبها في 1913 والرابعة أنهاها في ميونيخ في 1915. وحلّ عليه صمت عميق وطويل وحال من الاضطراب والقلق ولم ينه المراثي العشر إلا عام 1922. و"مراثي دوينو" ليست سهلة القراءة فهي حيّرت المترجمين والقرّاء على السواء لما تتضمن من موضوعات مختلفة ومتشابكة، وقد كتبها ريلكه باقتضاب حيناً وغنائية حيناً آخر معتمداً غرابة الصور والمناخ. وبدت المراثي قريبة من "كتاب الساعات" وفيها لم تبق الحياة مواجهة للموت كالظلام والضوء، وإنما يتمثّل الموت والحياة، كلحظات من المصير الأزلي وقد شكّلا كلاهما قوّتين غير محدودتين لا تنفي واحدتهما الأخرى. وكتب ريلكه يقول عن هذه العلاقة بين الحياة والموت في احدى رسائله: "توكيد الحياة وتوكيد الموت يبينان كما لو انهما لا يشكلان إلا توكيداً واحداً ... ليس هناك "ما تحت" ولا "ما وراء" بل وحدة عظيمة وفيها تقطن الكائنات التي تتجاوزنا والملائكة كما لو انها في مسكنها". وتؤلف "المراثي" كلاً قائماً على وحدة الأسلوب والإيحاء وهي لا تخضع لتأليف دقيق وصارم. فإيقاعها يلين امام ضرورات التجربة الداخلية والموضوعات مطروحة بتقطع كأن الشاعر لا يهجرها إلا ليعالجها مرة اخرى، ليزداد غناها في هذا الصعود صوب بلاد الألم والموت، وصوب مواطن التناغمات والأنغام الجديدة. وعرفت هذه التجربة ثلاث لحظات اساسية هي التي أملت هندسة المرثيات وترابطها. فالمرثيات الثلاث الأولى تصف حدود الكائن وعجزه في ان "يكون". ويستعيد ريلكه الاسئلة البديهية التي كانت ما برحت بلا اجوبة ليختصرها بدءاً من المرثية الأولى في سؤالين جوهريين: كيف للحياة ان تكون ممكنة فيما تفسدها رغبة الامتلاك كل لحظة وفي كل ظواهرها وعليها وحدها يُلقى الخوف من الموت؟ ومن يقدر ان يصبو اذن الى الأجل البسيط، الى ان "يكون" ببساطة فيما الحياة تتمثل للكائن كغابة من العلامات التي تكبحه وتلهيه وتصرفه عن قدره؟ وختاماً لا بد من الاشارة الى ان اهمية الترجمة التي انجزها فؤاد رفقة تكمن في كونها تستند الى النص الألماني مباشرة، وكان الشاعر كاظم جهاد ترجم "المراثي" كاملة عن اللغة الفرنسية معتمداً صيغاً مختلفة ونشر جزءاً منها في مجلة "الكرمل" العدد 27، السنة 1988. ومن ترجمة رفقة نختار المرثية السابعة: لا شكوى بعد الآن، لا شكوى، الشكوى التي تخطّاها الصوت، ستكون طبيعة صراخك، حقاً، في نقاوة ستصرخ كالعصفور حين يرفعه الفصل الصاعد ناسياً تقريباً انه حيوان ضعيف، لا قلب فقط يقذفه الفصل في الضياء، في السماوات الداخلية. مثْلَه تودّ لو تشكو، لا أقلّ - الى حبيبة غير مرئيّة تشعر بكَ، حبيبة ساكتة يستيقظ فيها الجواب بطيئاً، وعند سماعها تدفأ- الرفيقة المتّقدة لشعورك الجريء. آه، والربيع يشعر بذلك -، فما من مكان إلا ويحمل نبرة البشرى، اولاً تلك النغمة المستفسرة الصغيرة التي في سكينة متصاعدة يجعلها نهار نقيّ مستجيب اكثر صمتاً. ثم الدرجات صعوداً، درجات النداء حتى هيكل الغد الذي في الحلم، ثم المزغردة: النافورة التي في اندفاعها الى فوق تتوقع سقوطها في لعب من الوعود. وبعد ذلك الصيف! لا صباحات الصيف كلها فقط، ولا فقط كيف هذه الى نهار تتحول وتضيء بالبداية. لا النهارات فقط، النهارات التي في رقّة تحيط بالزهور، وإلى فوق، تحيط بالأشجار ذات الأشكال القويّة العنيفة. ولا فقط وَرَعُ هذه القوى المُتفتّقة، ولا الدروب فقط، ولا المراعي في المساء فقط، ولا فقط الصفاء المُتنفّس بعد عاصفة متأخرة، او فقط النوم المقترب والتأمل في المساء.... لكنِ الليالي ايضاً! لكنْ ليالي الصيف السامية، لكن النجوم، نجوم الأرض. آه، لو اموت، وأعرفها بلا نهاية، هذه النجوم كلها: فأنا كيف، كيف، كيف انساها! انظر، ها أنا دعوتُ الحبيبة، غير انها لن تجيء وحدها، من قبور ضعيفة فتيات يأتين ويقفن، لأني كيف احصر، كيف احصر النداء الذي اناديه؟ الموتى ما زالوا ابداً يطلبون الأرض. وأنتم، ايها الصغار، شيء هنا نفهمه مرة لا غير يساوي اشياء كثيرة. لا تظنّوا القدر اكثر مما هو في طينة الطفولة. كيف تتخطّون الحبيب غالباً، لاهثين، لاهثين بعد ركض سعيد الى لا شيء، الى الحرّية. الوجود هنا رائع. انتنّ، يا من ظاهرياً بدَوتُنّ بلا وجود كمن غرق… انتنّ، يا من في اسوأ ازقة المدن مقرّحات، معرّضات للزبالة. لأن كل واحدة كانت لها ساعتها، وربما ليست تماماً ساعة، فترة تكاد لا تُقاس بمقياس الزمن بين برهتين… كان لها وجود، كل شيء، عروقها ملأى بالوجود. غير اننا نحن في سهولة ننسى ما لا يؤكده الجار الضاحك ولا يحسده. نحن نريده ان يظهر، بينما السعادة الأكثر ظهوراً تجعلنا نحسّ بها اولاً عندما نحوّلها داخلياً. في لا- مكان، ايتها الحبيبة يصير العالم إلا في الداخل. حياتنا تزول في التحوّل. ودائماً يصير الخارجيّ اقلّ. حيث كان مرة بيت دائم تحلّ صُوَرٌ ذهنية تعترضنا، صُوَرٌ جاهزة للتأمّل كما لو انها لم تزلْ في الدماغ. ان روح الزمن تخلق لها مؤونة كبيرة من القوة، مؤونة لا شكل لها كالطاقة المتوتّرة التي تستخرجها من كل شيء. هي لم تعد تعرف الهياكل، نحن الآن نوفّر تبديد القلب في السرّ. بلى، حيث لا يزال هناك شيء يصمد، شيء له الصلاة والخدمة والركوع تماماً كما هو-، يكون في اللامرئيّ. كثيرون لا يَرَونه، لكن دون ان يجْنوا الفائدة من بنائه داخلياً بأعمدة وأنصاب في صورة أعظم! كل انعطاف غامض في العالم يشتمل على من لا إرث لهم، لا الماضي يخصّهم، ولا الآتي القريب، لأن اقرب شيء يظلّ بعيداً ايضاً عن البشر. وهذا يجب ألاّ يُربكنا، بل يقوّي فينا الاحتفاظ بالشكل المعروف لدينا-. هذا مرة صمد بين البشر، صمد وسط القدر الماحق، وسط عدم -المعرفة -الى -اين، صمد كشيء له وجود، وانحنتْ نجوم اليه من سماوات آمنة. ايها الملاك، انتَ ايضاً أدلّكَ عليه، انه هناك! في مدى بصرك يقف اخيراً سالماً، وفي النهاية منتصباً. الأعمدة، الأبراج، ابو الهول وركائز القبّة المرتفعة، رمادية، من مدينة تزول او مدينة غريبة. الم يكن هذا معجزة؟ آه، تعجّب، ايها الملاك، لأننا نحن هذا كله، نحن، آه، ايها الجبّار، خبِّر اننا نحن الذين فعلنا هذا، فنَفَسي غير كافٍ للمديح. نحن لم نهمل الفضاءات السّمحة، فضاءاتنا. كم يجب ان تكون مخيفة الاتّساع لأن آلاف السنين لم تجعلها تفيض بأحاسيسنا لكن برجٌ ما كان كبيراً، أليس صحيحاً؟ آه، ايها الملاك، هكذا هو كان، حتى بجانبكَ كان كبيراً. كاتدرائية تشارترس كانت كبيرة، والموسيقى وصلت الى ما هو ابعد وتخطّتنا. بلى، حتى العاشقة، آه، وحيدة عند نافذة في الليل... ألم تصل الى ركبتك؟ لا تعتقد أنني اشكو، ايها الملاك، حتى لو شكوتُ، فأنتَ لا تجيء، لأن ندائي ابداً مليء بالانطلاق، وعكس تيّار قويّ كهذا لا تقدر ان تخطو. كذراع ممدودة ندائي، ويَدُها المفتوحة للأخذ تبقى امامكَ مفتوحة كمن يدافع ويُنذر، ايها البعيد عن الادراك، بعيد هناك".