إذا نحيت "المصادر المطلعة" و"المراجع المأذونة"، وبينها "المرجع الأبرز" ونحي "المحظور" الإقليمي و"السقف" الذي لا يقل عن المحظور إقليمية، وترك "الغطاء" ورفعه - وهذه كلها من لوازم "التحليل" السياسي والإخباري اللبناني، اليومي والمحترف، ولا يستقيم تعليل بغيرها - ماذا يبقى من قضية الشيخ صبحي الطفيلي، صاحب "ثورة الجياع" البعلبكية الشيعية، وأمين عام "حزب الله" اللبناني في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وأحد أركان معارضة الحزب الداخلية إلى يوم فصله من الحزب العتيد في الأيام الأخيرة من كانون الثاني يناير 1998؟ يبقى، على الأرجح، ما تقوم به قضية الرجل و"حركته"، أي تاريخها. ف"ثورة" المعمَّم والمناضل البريتالي نسبة إلى بلدته البعلبكية، بريتال والخميني جاءت في أعقاب انتخابات عام 1996، وصيفه، وغداة هذه الإنتخابات. وعلى نحو ما عارض أمين عام "حزب الله" الأول، أو الثاني إذا عدّ السيد ابراهيم السيِّد "ناطقاً" بلسان المنظمة الخمينية وليس أميناً عاماً "منتخباً"، الإنتخابات الأولى، في عام 1992، عارض الثانية. وأياً كانت دواعي معارضته، في وقتيها ومرحلتيها، لا يستغلق على المراقب استخلاص داعٍ، ملح وراجح، إلى المعارضة. فالهيئات الشيعية اللبنانية برمتها، من المنظمة العسكرية والأمنية المتصلة اتصالاً عضوياً بإيران وسياستها "الجهادية" إلى الهيئة"الملِّية" والمصلحة الإدارية الملحقة برئاسة مجلس الوزراء، انقلبت، في الوقت بين خريف عام 1990 إلى صيف عام 1992، إلى بعض أجهزة الحكم، وبعض وظائفه. وبذريعة المعطيات الإقليمية التي تتلخص في "وحدة المسار السوري - اللبناني" في المفاوضات - وهذه الوحدة، على نحو ما تفهمها السياسة السورية، تستدعي سيطرة سورية كاملة على الدولة والمجتمع اللبنانيين - تحول كل من يمت، وما يمت، إلى شيعة لبنان بعلاقة: في الوظيفة "الرسمية" والنقابة والعمل والسياسة والصحافة، إلى نصير عنيد ل"وحدة المسارين" وما تستدعيه وتشترطه، على رأي مأذوني تأويل الشروط. وعلى هذا بات يُخشى تحول أي معارضة، مهما اعتدلت في أولها، إلى معارضة "للنظام" كله، ولركنه الإقليمي الصريح والمتسلط. ولما كان "النظام"، بحسب خرافته في نفسه وعنها، ثمرة الإقرار بتوازن عادلٍ للسلطات ولمصالح الطوائف وروابطها، فلن يعني خروج معارضة شيعية تلقائية على النظام العروبي إلا دحضاً علنياً للخرافة الإقليمية في الحروب الملبننة "الأهلية" وعللها ومساراتها ونتائجها. فلا ريب، والحال هذه، في أن أفضل معارضة شيعية، وأكثرها مناسبة ل"وحدة المسارين"، إنما هي معارضة تنشأ تحت جناح الطرف الأكثر وحدة في هذه "الوحدة"، والأقوى مساراً في "المسارين". ومثل هذه المعارضة إذا تصدرها الشيخ صبحي الطفيلي، الوثيق الصلة بالسياسات الإقليمية المتحالفة على رغم بعض هنات ربيع عام 1988 وصيفه في ضاحية بيروتالجنوبية، وعلى رغم بعض حزازات حروب المخيمات، وبعض التردد في حل مسألة الرهائن الاجانب في صيف عام 1990 وخريفه، أمين رعاتها انحرافها عن الإستقامة المرجوة والواجبة. فمسرح "الثورة" هو البقاع. والبقاع دقيق "التأطير"، عميق التخلل، وبمتناول الإشارة، على ما استفاض "المحللون" شرحاً وإفهاماً غداة إعلان الطفيلي حركته في شتاء عام 1997. ومادة "الثورة" هم أهل بلدات بعلبكية تربطهم بالجوار السوري روابط كثيرة وقديمة، توثقت بروابط جديدة منذ دخلت القوات السورية البقاع تحت أعلام وأسماء متنوعة في ربيع عام 1973، ثم في صيف 1975 وصيف 1976، قبل الدخول "الرسمي" مع "قوات السلام المعزز" المعروفة بقوات الردع. ويعاني البقاع، منذ ضبط الحدود اللبنانية والسورية المشتركة قبيل عام 1990، ومنذ عودة الرقابة الدولية والأميركية على زراعة الخشخاش وتسويقه في عام 1992 واضطلاع القوات السورية بالمسؤولية عن إتلاف زراعته، يعاني نضوب موارد غير منظورة كانت مصدر عائد كبير اعتاش عليه جمهور من البقاعيين. وفاقم المشكلة مفاقمة حادة دخول العمال الزراعيين السوريين، من غير رقيب ولا حسيب، سوق العمل المحلية. وسبقتهم إلى الدخول الحر السلع الزراعية السورية. واليد العاملة السورية لا ينافس رخصها، شأن السلع الزراعية. فخسر البعلبكيون من جراء الأمرين شطراً من مصادر مداخيلهم المحلية والعادية، بعد خسارتهم الشطر الإستثنائي. وسكتت حركة الشيخ الطفيلي عن معظم هذه الوقائع، على ما ينبغي لحركة يرعاها من يرعاها، وجوارها هو جوارها. فرددت الشعارات الشيعية والبعلبكية التقليدية، واتهمت "الدولة" بالتقصير وتقصيرها لا يمارى فيه، وتوعدتها بالعودة إلى زراعة الخشخاش، ولامتها على رسومها وضرائبها، وألغت رسوماً إما لم تكن لتُستوفى أو قليلة النسبة من التكلفة العامة للإنشاء، ولوحّت بوجه الطاقم الحاكم، وبعضه حزب اللهي وكله يوالي السياسة السورية، بالحظر على دخول البلدات التي يمثلها في المجلس النيابي. وفي "الأيام" الثورية التي أعلنها أمين عام "حزب الله" الأسبق، حمل أنصاره السلاح في البقاع دون بيروت، باستثناء الليلة التي حرقوا فيها محرقة النفايات في الضاحية الجنوبية، وتظاهروا به، وقطعوا طرقاً "وطنية" عامة. وفي هذه الفصول كلها أغدق الشيخ الخمسيني على "الدولة" ورجالها وأجهزتها النعوت الجارحة والمهينة. وهذا كله مربَح للسياسة الراعية وعائد صاف. فلم يشر أحد، ولو بإشارة البخيل الجاحظي إلى قطعة الجبنة الموروثة من أبيه، إلى مشكلات البقاع القائمة والراهنة والمعروفة. وكيل النقد، على صورة سباب وشتم، للحكم اللبناني "الداخلي"، أي للوجه الداخلي من سياسته، وقصر النقد على هذا الوجه المفترض منفصلاً عن بنيانه العام وشرعيته وصناعته. ومثل هذا النقد، وعلى هذا النحو وهذه الصورة، مقبول ومستحب. فهو يذكر أهل الحكم بضعف سندهم الداخلي، ودَيْنهم بما هم فيه لأصحاب نعمتهم. أما من وجه آخر فانشقاق حركة الطفيلي، فعلاً وحقيقةً، عن "حزب الله"، لا يعدم حملَ الحزب على التواضع وعلى كبح جماحه. وهو ربما بدا متعالياً ومتطلباً، في أثناء الإعداد لانتخابات عام 1996، فوق ما تقدر عليه السياسة السورية، وفوق ما تحتسبه، وهي الحريصة على تنوع مواردها اللبنانية، وعلى جلاء صورة للخارج الدولي ينبغي ألا يتجاوز "حزب الله" منها قدراً معلوماً تعلمه السياسة السورية وقد يسهو عنه "حزب الله" في انتشائه. وعلى رغم تسليم هذه السياسة للحزب بحصة انتخابية وافرة عوضت عليه في الجنوب وفي البقاع بعض ما خسره في بيروتوالجنوب، رحبت السياسة إياها بإضعاف حركة الشيخ الطفيلي في البقاع - حيث تعاني منظمة السيد نبيه بري، رئيس "أمل" ورئيس المجلس النيابي اللبناني ورئيس كتلة التحرير نحو سدس النواب، ضعفاً مزمناً - حزبَ "المقاومة الإسلامية". ورحبت كل القوى السياسية الأخرى بإضعاف "حزب الله" بالبقاع. وكانت "أمل"، وهي "حزب الدولة" فوق ما كانت الكتائب حزب الدولة "المارونية"، أول المرحبين وهي كانت أول المنكرين الهجوم على عين بورضواي وحوزتها، وكانت أول مشيِّعي الشيخ خضر طليس، قتيل حصار الحوزة ونسيب الطفيلي ونائب "حزب الله" السابق، وأعلن أحد وزيريها الرسميين معارضته إحالة مجلس الوزراء قضية الشيخ المتمرد على المجلس العدلي أمام آلات تصوير التلفزيون.... ومثل هذا الإضعاف، في هذا الموضع المتقلب والرخو التماسك الإجتماعي والسياسي، لا ينتقص من دور الحزب الخميني العسكري على "الجبهة" السياسية والإقليمية في جنوبلبنان. فالحزب الخميني، وهو "المقاومة الإسلامية" على هذه الجبهة وما ينسبه أحد مفكري حزب البعث السوري السيد أحمد سليمان الأحمد إلى أحد رجالات السياسة السورية في لبنان، فالحزب وبنيانه يتيحان الفصل بين الوحدات التي تقاتل في الجنوب وبين الجمهور السياسي والأهلي في عمق البقاع. وعليه لا تتناقض قيادةُ الأمين العام الأسبق حركةَ احتجاج وانفصال "اجتماعية" في البقاع مع إقرار القيادة الحزبية الرسمية على رعاية "مقاومتها" وعلى أداء هذه "المقاومة" وظائفها الإقليمية والمحلية المعهودة والمختبرة و"الضرورية". فالقيادة الحزبية الرسمية إنما تتربع في قمة خليط جهازي وطائفي يستمد لحمته من تدبير جهازي وسياسي ليست القيادة الرسمية إلا ظله وصنيعته. وتحتمل هذه اللحمة الفصل بين "الجبهة" وبين الخطوط الخلفية "الإجتماعية" من غير خسائر فادحة تصيب انضباط "الجبهة" وفاعليتها العسكرية والتقنية. والمربَح البعيد المدى الذي يجنيه "النظام" العروبي السياسي، الملبنن، من النفخ في حركة الطفيلي، ثم من إخمادها وإطفائها، يعود عليه من دمغه حركة احتجاج اجتماعية فعلية بدمغة الإفتعال والإصطناع. ف"ثورة الجياع"، على رغم المقدمات الحقيقية والمفهومة التي بَنَت عليها، انقلبت بين يدي أصحابها، والنافخين فيها، إلى مثال المناورة السياسية والأمنية الراكضة إلى الخيبة والإخفاق المرين. وهذا "درس" تلقيه القوة النافذة في لبنان على أشلاء القوى الإجتماعية اللبنانية التي قد تضطرب، بعد، في الجسم الوطني. ويعطل "الدرس" هذا إقبالَ القوى الإجتماعية والسياسية، الآتية والمحتملة، على العمل السياسي ونازعَها إلى المطالبة وتنظيم نفسها. وعلى نحو ما جنت رعايةَ حركة الشيخ الخميني والبريتالي ما جنته من رعايتها لها بلورةً لمعارضة شيعية مأمونة الجانب، واقتصاصاً من حزب قد ينزع الى بعض العجرفية، وتقوية مرجوة لمنافسين موالين ولاءً غير مقتسم، وإجهاضاً لمعنى كل حركة اجتماعية مزمعة، قد تجني رعاية إخماد الحركة، على الطريقة التي جرى الإخماد عليها، مكاسب كثيرة. فالإجهاز الجزئي على الحركة يثبت قوة "النظام" الحاكم وأهله، من وجه، ويغذي التنابذ القائم، و"الضروري"، بين القوة الحاكمة وبين المحكومين. فلا يرجو المحكومون حل مشكلاتهم بواسطة الحكام، ويقيمون على اضطرابهم المزمن، وعلى استغاثتهم من يستقوون بهم على الحكام الوطنيين والمحليين، كان المغيثون الشقيق الجغرافي أو الأخ المذهبي. ويغذي الإجهاز الجزئي دوماً، على طريقة عثمانية نصبت علماً على "السياسة" الخلافات، المذهبية، بين أهل الحكم. فرئيس مجلس الوزراء السنّي هو صاحب قرار الحصار، وسنده هو رئيس الجمهورية الماروني، وعضده هو القوات المسلحة وقائدها المرشح لرئاسة الجمهورية. ويتيح هذا لرئيس مجلس النواب، الشيعي، التحصن بدوره "الإجتماعي" الذي اشتهر به شهرة المصارعين الشعبيين بألقابهم وأقنعتهم. ويتيح له كذلك إلادلال بدوره "الديموقراطي"، المفترض له وهو رأس الهيئة التشريعية ومستودع سلطات الشعب، وهو قائد "انتفاضة" جماهيرية على الإستبداد والحرمان والعمالة وضعت الأمر في نصابه العادل والمتوازن. وينبغي أن يحصد "حزب الله" من انشقاقه الشهير من التشهير هذه المرة والدامي، ومن الشُّبَه التي حاطته من كل صوب: كيف قتل الضابط وهبة والشيخ طليس؟ لماذا قتلا معاً؟ ما معنى قول مختار بريتال أن الله يعلم من هم القتلة والناس كلهم يعلمون؟ كيف خرج ربان "الثورة" من مركبه الغريق؟ وإلى أين؟ إلخ. ينبغي أن يحصد الحزب شوك الأقاويل، والإنتساب إلى "السلطة"، وثارات أشباه العشائر وأصحاب المصالح المتكتلة شللاً وزمراً والمتعصبة عصباً من كل الألوان. ومهما قيل في نفي دور إيران الخمينية في هدر حركة الطفيلي وإباحتها للحكم المنقسم على نفسه، ليس من اليسير إقناع البعلبكيين، واللبنانيين عموماً، بطهارة اليد والذيل الإيرانيين. على هذا المثال، القاتم والمخيف، يجري "بناء الدولة" في لبنان و"إعادة إعمار البلد". ويفترض المثال هذا في صانعه، الإقليمي على ما لا يشك أحد، اطمئناناً إلى إطلاق يده في التفريق والجمع والإصطناع من غير قيد. فهو لا يحتسب خسارة، ولا يخامره شك في قيد على فعله. وهو يصدر في هذا عن تهوين من شأن كل ما يمت إلى السياسة، ومسوغاتها، بصلة وعلاقة. فيفصل "المقاومة" عن الحركات الإجتماعية، ويَحْمل الحركات الإجتماعية على انتفاضات ضريرة وعمياء على المصالح العامة، ويغذي عداء المعدمين على السياسة والسياسيين، ويُسكت أصحاب المصالح عن مصالحهم إذا تعارضت مع مصالحه، وينفخ في حزازات الجماعات بعضها على بعض، ويجمع مقاليد التحكيم في يده وحده، ويحرص على أن ينزل تحكيمه الخسارة في كل المتنازعين... لكنه، من وجه ثانٍ، يدير صوب الأقوياء الإقليميين والدوليين وجه الضعف والعجز. فهو لا يرضخ إلا للقوة. وهذا "درس" يتعلمه أضعف الضعفاء، على مثال جزائري أصبح مشهوراً، ولا يتعلمه الأقوياء المسترسلون مع إيحاء قوتهم. فهم، شأن بعض الشطار الذين تستخفهم شطارتهم، ينسون أن كتم الشطارة وتواضعها جزء من تأثيرها وفعلها. وهم شأن السيد صدام حسين...