ان الواقع الانساني الشامل المنعكس علينا والمؤثر فينا بالضرورة، متفاعل مع واقعنا الاجتماعي والفكري المحلي الضاغط علينا سلباً وايجاباً، اي الصراع الفكري والوجداني الدافع للمنظومة الفكرية الوجدانية الفردية - الجمعية باتجاه ادراك معنى وجود كائنين بشريين مختلفين، وليس بالضرورة متكاملين، يندفعان بحكم عوامل عدة الى الانضواء في وحدات أطر اقتصادية او اجتماعية او فكرية او عاطفية، ويضطران الى تفحّص ذاتيهما ومقتربات وجودهما داخل هذه الاطر، كل ذلك لا بد ان ينعكس في الادب الذي يكتبه الرجال والنساء بصفتهم نخبة وطليعة تمتلك تميزاً في الحسّ والادراك والتطلع، وتتوافر على القدرة على التعبير عن ذلك كله في خطاب جذاب ومؤثر في الذات المنتجة والذوات المتلقية في آن واحد. وفي ما يخص حضور "الآخر" في الخطاب الادبي مرّت الرواية العربية في مراحل مختلفة، ليس بالضرورة منقطعة عن بعضها البعض تاريخياً، يمكن رؤيتها بالشكل الآتي: 1 - الحضور الواقعي بكل ما يحمله من تصنيف تراتبي اجتماعي وتوصيف معياري، وبالتالي من صراع وقائعي مكبوح الرؤية محدود الاستبصار يسير عموماً في خطين متوازيين أم، زوجة، حبيبة، خاطئة، مظلومة، طاهرة، مدانة… الخ وبالمقابل زوج، أب، حبيب، متسلط، غادر، عقبة، سجّان… الخ. 2 - ثم بدأت الصورة بالانزياح الحذر البسيط تحت تأثير الحضور المتنامي للمرأة خارج البيت واتساع أطر اجتماع الرجال والنساء خارج الهندسة المكانية المرسومة لهما، فالمرأة اصبحت اكثر ادراكاً لقيمتها واكثر تطلباً للإنصاف، وان ظلت اسيرة "منافع ومكاسب" وضعها الانثوي. اما الرجل فقد وقع في أسر ازدواج الرؤية والخطاب. فهو تقدمي نظرياً، يدرك ضرورة انسجام المعتقد والسلوك، اما عملياً فقد ظل أسير فرط حرّيته وفائض حقوقه من ناحية وسطوة المعطيات الموروثة الثابتة التي لم تفقد سوى القليل من قدراتها على ضبط سلوك الفرد في المجتمع. وفي هذه المرحلة او النمط الروائي جعل "الآخر" يحضر في الرواية بصفته "رمزاً" محكوماً بالسقوط. وهو بالفعل رمز ما دام وضع النظرية موضع التطبيق يكاد يكون مستحيلاً عملياً. ويحفل هذا النمط من الروايات بالمآسي الوجودية للابطال الذين ينهارون تحت وطأة التمزق ما بين الشعارات الجذابة التي تغازل المعاصرة وبين الخيارات العملية التي يضطر اليها الفرد البطل، والتي تهبط به دائماً من علياء الفكر التقدمي الى حضيض الموروث المرفوض فكرياً، والذي لا مناص من الانحدار اليه عملياً. 3 - في السنوات العشر الاخيرة بدأت صورة جديدة "للآخر" بالظهور في الرواية العربية، صورة يمكن وصفها مبدئياً بأنها "صورة ادراك وعي المساواة". ولا بد من الاشارة هنا الى المساواة الشعارية الموصوفة بالحقوق المتساوية مقابل الواجبات المتساوية ليست سوى تدبير ايديولوجي للتخلص من مواجهة اشكالية الوجود البشري المتمثل في كيونتين مختلفتين استولت احداهما على مقادير الاخرى لاسباب اقتصادية دفنت تحت ركام هائل من الطقوس والمعتقدات. والمقصود بإدراك وعي المساواة هو اكتشاف الآخر في ضوء المتغيرات العلمية والفكرية والاقتصادية والسياسية التي استنبطت التجمعات البشرية منها الشعارات لاستبصار ملامح مجتمع بات يتزحزح رغماً عنه عن أسس المجتمع الذكوري. في هذه المرحلة، او النمط الروائي الممثل لسماتها، انتهت ميلودراما الصراع غير المتكافئ بين الرجل والمرأة، او بينهما وبين اشتراطات المجتمع، او بين احدهما وهذه الاشتراطات سعياً الى اللقاء بالآخر. كما تقلصت رمزية الحضور ومآسيها الوجودية. وبدأ "الآخر" يحضر بصفته المساوية: الشريك الندّ الذي لا يمكن التجاوز على قيمته من دون ان ننال من قيمتنا. ويخيّل الي ان مرحلة ادراك وعي المساواة هي في الاساس نتاج "ادراك الجزء الذي فينا من الآخر" وهذا هو المنطق الصحيح لادراك معنى المساواة. فالمساواة هي النظرة الاعتبارية المساوية وليست موضع الذكر والانثى على قاعدة الحقوق المتساوية مقابل الواجبات المتطابقة. وبعبارة أدق، الاّ يرتب الاختلاف تراتبية اجتماعية، بل ان يكون الاختلاف منطلقاً لتفحص ذي رؤية جديدة تماماً للحقوق والواجبات، وبالتالي لمعنى المساواة. ان ادراك عناصر الانوثة في كيان الرجل، وعناصر الذكورة في كيان المرأة، فيزيولوجيا ونفسياً هو المنطلق الصحيح لادراك معنى المساواة. المساواة في النظرة الاعتبارية لعناصر الذكورة والانوثة في المخلوق البشري رجلاً كان او امرأة. وحين يدرك الرجل عناصر الانوثة في شخصيته وكيانه فيحبها ويحترمها ولا يكبتها او يسلط احتقاره لها على ما يتخيل انه منبعها الانثى فانه يصبح انساناً سوياً. وحين تكتشف المرأة عناصر الذكورة في شخصيتها وكيانها فتحبها وتحترمها ولا تهرب منها او تسلطها للثأر مما نتخيل انه منبعها الذكر فانها تصبح انساناً سوياً. والناس الاسوياء هم الذين ينجحون في ان يكونوا متكافئين متساوين فيحققون بذلك المساواة. ومتى ما اكتشفنا الجزء الذي فينا من الآخر واحببنا "أقله" فينا واحترمناه، أحببنا "اكثره" في الآخر واحترمناه. والرواية العربية الحديثة - وبخاصة الصادرة خلال العقد الاخير - تسجل مؤشرات جديرة بالملاحظة على ادراك الآخر المساوي. لكن حضور الآخر جاء في اغلبها تعبيراً عن استحالة تحقق الشراكة المتكافئة بين ندّين متكافئين. فلكي تبني المرأة الكاتبة البطل المساوي فانها تصنعه على صورتها فتبرز عناصر الانوثة في شخصيته. ولكي يبني الكاتب الرجل شخصية البطلة المساوية فانه يصنعها على صورته فيبرز عناصر الذكورة في شخصيتها. وهذا الاستقطاب منطقي جداً، فنحن لا نستطيع ان نساوي بأنفسنا الاّ آخر شبيهاً. واذا افترضنا ان الكاتب والكاتبة ينطلقان لصنع الآخر كلٌ على صورته تحت تأثير معطيات الواقع وتطلعات النخبة وادراك الجزء الآخر في الذات، فانهما يختلفان في الهدف. فالرجل الكاتب يصنع الشخصية "الذكر - انثوية" ليرفع المرأة البطلة الى مستوى الذكورة فى مسعى الى تمجيدها واعلاء شأنها بمساواتها بالذات المتفوقة. اما المرأة الكاتبة فانها تصنع الشخصية "الذكر - انثوية" لتحطّ من قدر البطل في مسعى الى اهانته بمساواته بالذات المهانة. وفي الواقع فان هذين المسعيين، وبخاصة بالنسبة الى المرأة الكاتبة، ليس مخططاً لهما بقصدية ايديولوجية كلياً بل بدفع من العوامل الفكرية والسلوكية عميقة الفعل والتأثير في الذات الانسانية. وفي النتيجة نرى ان كلا الكاتب والكاتبة يعجزان عن التعامل مع الآخر الجديد، الغريب. وبخاصة في تحريكه ضمن شبكة العلاقات والبنى الفكرية التي تظل على رغم كل شيء اكثر قدرة على مقاومة فعل النماذج النخبوية. وهذا ما يحدث في الحياة اساساً واي تجاوز للحقائق الموضوعية يظل موضوعاً للبحث والدراسة وادب الخيال العلمي اكثر بكثير منه للراوية. ان النماذج الروائية المشار اليها اكثر حضوراً في ادب المرأة، لكنها واضحة في العديد من نتاجات الكتاب ايضاً، وهذا امر طبيعي، فالكاتبة - باعتبارها امرأة - اكثر مكابدة لعوامل اختلال ميزان العدالة في المجتمع وأشد يأساً من تحقق شخصية الرجل المكافئ او المتساوي، واكثر تطلباً للإنصاف، وأقل قدرة على وضع الرجل في روايتها في اطار "الموضوع الجنسي" المنقطع عن سياقات وجوه العلاقة الاخرى. في حين تستولي المرأة باعتبارها "موضوعاً جنسياً" على فكر الرجل الكاتب، الذي لا يستطيع التخلص من عبء امتيازاته الموروثة المتأصلة وذات الحيوية الاجتماعية المتواصلة التي تؤطره دائماً في صورة الصياد الفحل الذي "لا يعيبه الا جيبه!". أتذكر انني حين قرأت رواية جبرا ابراهيم جبرا "يوميات سراب عفان" أدهشتني الصورة الجديدة التي بدت عليها بطلته. ففيما عدا شخصية ثانوية في روايته الاولى "صراخ في ليل طويل" ظلت بطلات جبرا رهينات صفاتهن الجنسية كحبيبات وعشيقات. فمن أين انبثقت هذه الشخصية "الانثوذكورية" مقابل شخصية البطل "الذكر انثوية" في الواقع "امومية"؟ هل استطاع الكاتب اخيراً اكتشاف البطلة المساوية، ام انها فرضت وجودها في واقعه الموضوعي الشخصي؟ بالنسبة اليّ وجدت ان من المنطقي الافتراض بأن الكاتب انتهى الى اكتشاف هذه الشخصية في واقع موضوعي ذاتي يتمثل في خمود العاطفة الجنسية، حيث ان ازاحة العامل الجنسي دفع بجوانب شخصية المرأة الندّ، المساوية الى الواجهة. وبخاصة ان البطل كان في الرواية في خريف عمره، وفي محطة استقراره النهائية والبطلة في عنفوان شبابها وذروة انطلاقها نحو خيارات حياتها بعيداً عن اسر العاطفة. ومن الطبيعي فان حضور المرأة المساوية في رواية "يوميات سراب عفان" عمل على استحالة تحقق الاستحواذ، فلا المرأة اهتمت بالاستحواذ على الرجل ولا الرجل كان قادراً على الاستحواذ عليها فتركت الشخصيتان لعوامل نموهما حيث تجلت عناصر الذكورة والانوثة في منأى عن الطقوسية الموروثة في العلاقة من بين المرأة والرجل. وتنتهي الرواية بانطلاق البطلة خارجها، ليس الى رجل آخر كما يقتضي الطقس المتداول لانتهاء العلاقات العاطفية، وليس زهداً بالرجل الشريك، بل سعياً وراء تحقيق ذاتها، اما البطل فقد ظل يحبها، بل ظل يحبها على ما اصبحت عليه: بعيدة، مستقلة، خارج توصيفات العلاقة الموروثة. وفي رواية "أعمدة الغبار" للكاتب الاردني الياس فركوح نجد البحث عن شخصيتي والبطلة والبطل المتساويين، وقد انجزهما بعد خطوة من روايته السابقة "قامات الزبد" التي شهدت اضطراب الرؤية والمعاناة في تقدير المرأة المتكافئة، وآلام البطل الذي يدرك قصوره في تقدير هذه المرأة "الموجودة" وعجزه عن حبها واحترامها نتيجة تشعبه بإحساسه بتفوقه الذكوري ودوره كحارس للمعايير الاجتماعية". في "اعمدة الغبار" لم يكن البطل امومياً، بل عاشق يدرك قيمة عناصر شخصية حبيبته ويحبها من اجل ذلك ويخشاها بالقدر نفسه. لكن من ناحية اخرى كان مهزوماً فكرياً وسياسياً وعاجزاً عن المواجهة اي مثلوم الرجولة. ان بطلة هذه الرواية شخصية "انثذكورية" ساطعة الحضور ومساوية من حيث العمر والثقافة والوعي والقيمة الاجتماعية، وكذلك من منظور الحب العنيف المتبادل الذي يجمعها بالبطل. لكن الكاتب يفشل في ادارة الصراع العلاقة بين البطلين، فالبطل شخصية "ذكرانثوية": سلبي، عديم القدرة على المبادرة، سهل القيادة، بيتيّ. فتنتهي العلاقة بينهما لتغرق في الانين المونولوجي وفائض اللغة واللاتشخيص. وقد ظن الكاتب انه نجح في "اخراج" العلاقة من مأزقها حين جعل البطلة متزوجة وغير قادرة على الطلاق، في حين ان هذه الحقيقة الموضوعية لم تمنع من وضعها في اطار علاقة عاطفية متفجرة وعلنية ومقبولة في اطار الاصدقاء والمعارف. الا يحق لنا ان نتساءل عما اذا كان هذا المخرج هروباً من مأزق الكاتب العاجز عن التعامل مع شخصية البطلة التي تحدّت الموروث الجاذب والمكبل للكاتب وبطله معاً فعجزا عن التعامل مع امرأة مساوية، غريبة، وطارئة على زمن لم يتهيأ بعد لتقبّلها، فما بالك بإنصافها! وفي رواية "إينانا والنهر" لحليم بركات نجد شخصية اينانا الجموحة المتمردة "الانثذكورية" الرافضة لأي توائم مع شرطها، بل مع اي شرط اجتماعي. ولشدة تمردها واعتدادها بذاتها يصبح الرجل المساوي لديها حلماً تسبغه على اشخاص مستحيلين زوج صديقتها مثلاً. اما الرجال "الواقعيون" الذين يحبونها فتنفر منهم او تتخذهم وسائل لانطلاقها خارج حدود قيود اسرتها ثم لا تلبث ان تنقلب عليهم. والملفت في هذه الرواية ان الرجلين اللذين أحبّا البطلة لم يكونا "مساويين" بل اصبحا كذلك وهما يواصلان تقديم التنازلات لارضائها، لكنها كانت تزداد نفوراً منهما كلما ازدادا تنازلاً حتى تصل الى ما يشبه الجنون وتنتهي وحيدة مبتهجة باكتشاف تفرّدها وحريتها. ان الصراع بين المرأة والرجل لم يجد بعد قاعدته وحاضنته الملائمة، وسواء كان الصراع تناحرياً او متكافئاً فان آفاقه تظل مسدودة، ولا بد للعلاقة ان تصطدم بحتمية انكسار احد الطرفين لصالح سطوة الآخر. وحتى الشخصين المرئيين من منظور ادراك وعي المساواة يعجزان عن الصراع المتكافئ، ذلك انهما يظلان غير منسجمين اذا ما نظر اليهما من ناحية علاقتهما بالصورة الموضوعية الموروثة، وبخاصة ان الصورة "المتطلع اليها" ما تزال هلامية ومشوّشة بالكامل. وهكذا فان الصراع ضمن الحاضنة الاجتماعية والفكرية المتاحة ينتهي في الغالب بنبذ المرأة البطلة للرجل ذي الشخصية المتكافئة. فالمرأة ما تزال تحمل للرجولة الملامح المتوارثة للفحولة، وتتعلق بها، وان كانت سترفضها في النهاية بعد صراع مرير يتنازعه الموروث الملموس والمهيمن من ناحية، والمتطلع اليه الخيالي المائع من ناحية اخرى. في رواية حليم بركات "طائر الحوم" السابقة ل "اينانا والنهر" يحول الكاتب رسم صورة علاقة متكافئة بين طرفين متكافئين، فالبطل - مثلاً - لا يدعو زوجته الاّ بكلمة "حبيبتي" حين يتحدث عنها، وهذه اشارة ذات دلالة عميقة على تأشير مرحلة ومساحة التكافؤ في العلاقة بين الرجل والمرأة. لكن الرواية لا تلقي العلاقة وبطليها في معترك اي صراع، بل تظل عائمة على سطح مستقر يتمثل بانتهاء زمن الصراع وعبور مراحله، ومن الناحية الفنية لأن الرواية هي في الحقيقة رواية سيرة وذكريات، سيرة الكاتب البطل، وسيرة الزمن الحميم في المكان الحميم اللذين انتقلا الى الذاكرة، وبالتحديد الى مساحة الحنين في الذاكرة في مواجهة مستقر الكاتب المنفى/ المهجر مكاناً وزماناً.