يقابل الإجماع القائم في الوسط السياسي الفرنسي في مختلف اتجاهاته على رفض ضرب العراق عسكرياً والسعي الى ايجاد مخرج ديبلوماسي وسياسي للأزمة القائمة بينه وبين الاممالمتحدة، ما يماثله في الصحافة الفرنسية. فما من صحيفة فرنسية إلا وشككت بجدوى اللجوء الى القوة لحمل العراق على الالتزام مجدداً بقرارات الاممالمتحدة والموافقة على دخول خبراء اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة حول نزع اسلحة الدمار الشامل، الى المنشآت والمواقع الرئاسية التي يتوجب تفتيشها. هذا الموقف، الذي عكسته صحف فرنسا اليومية منذ تجدّد الأزمة، ليس مرده طبعاً التعاطف مع النظام العراقي في سلوكه حيال اللجنة الخاصة، وانما الى تقديراتها للنتائج التي ستترتب عن العمل العسكري على صعيد العراق وشعبه، كذلك على صعيد دول أخرى في المنطقة. فالصورة المكوّنة في الصحف الفرنسية عن الرئيس العراقي صدام حسين هي صورة شخص مستبدّ "فهو ظالم بحق شعبه وبحق جيرانه وليس لديه ما يبرّر أو يدعو للتسامح معه" على حد قول صحيفة "لوفيغارو" اليمينية، وتضيف انه "العدو الذي نود ان نكرهه". وتعتبر "لوفيغارو" ان التعنت والتهوّر الذي يبديه عبر تحديه لقرارات الشرعية الدولية تجعله على مواجهة مباشرة مع الادارة الاميركية التي تضع الازمة العراقية على رأس سلم اولوياتها، وترى ان هذه الازمة تدور بين لاعبين أساسيين "بيل كلينتون، الذي يريد ان يلعب دور البطل، وصدام حسين الذي يريد ان يلعب دور الشهيد". وخيار صدام حسين اعتماد التصلّب ينطوي، حسب قول الصحيفة، على الحسابات الآتية: "فهو يعتبر ان المجتمع الدولي سيصفق له مستاء من سعي كلينتون للتعويض عما لحق به من جراء فضيحة مونيكا - غيت، بواسطة القتل وتدمير العراق"، كما يراهن على "انقسام التحالف الذي أيّد الولاياتالمتحدة خلال حرب الخليج، استناداً الى الاستياء العربي من التساهل الاميركي حيال اسرائيل في عملية السلام". أما عن اعتبارات كلينتون، فتقول الصحيفة انه يراهن "على أن عمليات القصف الجديدة ستحل مشكلة لم تتمكن من حلها حرب سنة 1991". وفي ظل المعطيات القائمة ترى الصحيفة ان المساعي التي تقوم بها فرنسا وروسيا وسباقهما مع الوقت تبدو يائسة، لجهة تجنيب العراق "ضربة عسكرية تعرضه لاحتمال التمزّق" وتجنيب بعض دول المنطقة، مثل تركيا وسورية وايران "مفعول الدومينو الذي سيؤدي الى تهديد استقرارها". وتؤكد ان اللجوء الى القوة سيثير موجة معادية للولايات المتحدة في كل الشرق الاوسط، لأنه "كيف يقبل العرب بأن يعاقب صدام حسين لانتهاكه قرارات الاممالمتحدة فيما يتم تجاهل كل انتهاكات رئيس الوزراء الاسرائيلي نتانياهو للاتفاقات الاسرائيلية - الفلسطينية". واختارت صحيفة "لوموند" المعتدلة التوقف عند انحسار التأييد العربي للموقف الاميركي. وقالت ان واشنطن لم تجد صعوبة في الحصول على تأييد الكويت لموقفها وفي موافقتها على استقبال قوات ومعدات اميركية جديدة على اراضيها، "لكن الحليف الرئيسي لواشنطن في المنطقة، أي المملكة العربية السعودية، رفضت مماشاة الموقف الاميركي ادراكاً منها للمخاطر الناجمة عن الضربة العسكرية وإمكان زعزعتها لاستقرار المنطقة". ومع استمرار الازمة ومواصلة الولاياتالمتحدة استعداداتها العسكرية في الخليج، واعلانها عن الاسم الذي اختارته للحملة العسكرية المحتملة على العراق وهو "ديزرت ثندر"، رأت "لوموند" أن تمسّك فرنسا بالمساعي الديبلوماسية أملاً في حل سلمي للأزمة يثير أمرين مجهولين: - ما هي حدود التنازلات التي تريد بغداد تقديمها؟ - ما هو سقف المطالب الاميركية؟ وترى، انطلاقاً من ذلك، ان فرنسا تتحرك من دون معرفة الحدود التي يقف عندها كل من صدام والولاياتالمتحدة، وتتساءل عن "الموعد الذي ستختاره الادارة الاميركية للاعلان عن فقدان اي أمل بالتوصل الى حلول ديبلوماسية". الى ذلك، وفيما تشير التوقعات المختلفة الى انعكاسات سلبية للعمل العسكري الاميركي، على منطقة الشرق الاوسط، لا بدّ أيضاً من التساؤل حول انعكاساته المحتملة على الساحة الاوروبية. فرأت "لوموند" أن التباين الذي ظهر بين دول الاتحاد الاوروبي حول الموقف من الازمة مع العراق وأسلوب معالجتها يدعو للتساؤل "عن جدوى الكلام عن سياسة خارجية اوروبية موحدة"، في ظل معارضة فرنسا لاستخدام القوة وتأييد بريطانيا والمانيا لهذا الخيار. وبدورها، أشارت صحيفة "ليبراسيون" المقرّبة من اليسار الى السباق القائم بين المساعي الديبلوماسية والحشد العسكري الاميركي حول العراق، مستخلصة ان فرص التسوية بدأت تتقلّص. وتناولت "ليبراسيون" مطولاً التباين في الموقف الاوروبي من الازمة للإشارة الى ان هذا التباين عاد وأبرز المحاور التقليدية التي يبدو للأسف انه لم يتم تجاوزها على رغم اللحمة القائمة بين الدول الاوروبية. وقالت انه في غياب التوافق بين باريسوواشنطن حول استخدام القوة حيال العراق "عادت بريطانيا والمانيا لتغلبا وفاءهما للولايات المتحدة على أي اعتبار وتؤيدان استراتيجيتها"، بينما "وقفت فرنسا ودول جنوب اوروبا ومنها ايطاليا واسبانيا وبلجيكا في الجانب الآخر". وأبدت "ليبراسيون" نوعاً من القلق حيال "ما سينجم عن التباين الحالي اذا ما قررت واشنطن تطبيق خيارها العسكري".