عزت دوائر قريبة من حزب "الرفاه" التركي المنحل في أوروبا مغزى حالة الهدوء غير العادي التي سادت الشارع بعد صدور قرار حل الحزب عن المحكمة الدستورية العليا في 16 كانون الثاني/ يناير 1998 ومصادرة امواله وممتلكاته ومقرّاته الى سببين رئيسيين: اولهما رغبة قيادته بتفويت الفرصة على الحكومة العلمانية والمؤسسة العسكرية باتخاذ الذرائع من اجل شن حملة اعتقالات واسعة ضد القيادة والعديد من كوادر الحزب الرئيسية والزج بها في السجون، وتقديمها الى محاكمات جديدة بتهمة التمرد على القانون وتهديد النظام. وثانيهما رغبة القيادة بمتابعة النزاع القضائي والقانوني مع السلطة امام المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان بهدف الحصول على قرار من اعلى مرجعية قانونية في الاتحاد الأوروبي الذي تسعى انقرة للانضمام اليه، ثم متابعة المعركة السياسية مع السلطة من موقع لا يمكنها رفضه. وذكرت هذه الدوائر ان حزب "الرفاه" في أوروبا، يملك عشرات المؤسسات والمكاتب وألوف الاعضاء، ويفوق حجمه في الساحة الأوروبية مجموع الاحزاب والقوى التركية الاخرى، بما فيها التجمعات التي ترتبط تقليدياً بأجهزة الدولة التركية كالصوفيين. وبناء على ذلك، فإن حزب "الرفاه" في اوروبا مستمر في نشاطاته، ولم يشمله الحظر، خصوصاً وان السلطات الأمنية والسياسية في الدول الأوروبية وعلى رأسها المانيا تنظر الى الرفاه باعتباره عامل استقرار في اوساط الجاليات التركية، ونشاطاته لا تهدد الأمن وبعيدة عن التطرف. وأوضحت هذه المصادر ان قيادة "الرفاه" في انقرة كان بامكانها دفع الاوضاع في البلاد الى أتون صراع عنيف في اعقاب صدور قرار حل الحزب وكان يمكن ان يحصل ذلك بمجرد سكوت القيادة. الا ان القيادة اتخذت هذا الموقف بناء على حسابات واعية وشاملة قائمة على معلومات عن وجود خطة لدى مراكز القوى المتطرفة داخل الجيش والنظام للبطش بقيادة الحزب وكوادره كما سبق وحصل في الجزائر. غير ان وعي اربكان وضع ثقله في مصلحة تهدئة الاوضاع وكبح جماح ردود الفعل الشعبية، لم يؤد الى تفويت الفرصة على أعداء "الرفاه" فقط بل أدى الى اظهاره كحريص حقيقي على سلامة تركيا واستقرارها، وحريص على المواجهة بالوسائل القانونية والشرعية. في حين ان الطرف الآخر كما اتضح ابعد ما يكون عن المسؤولية والنهج الديموقراطي الى عدم حرصه على مصلحة تركيا وسلامها الاجتماعي وأمنها الوطني. الى ذلك فضح قرار حل الحزب جهاز القضاء التركي الذي اتضح انه مؤسسة اخرى تابعة للمؤسسة العسكرية وتميل الى سياسة البطش والاعتداء على روح القانون ومصادرة الحريات بينما القضاء في أي دولة اوروبية اخرى هو حصن الحريات والمدافع عن حقوق المواطن. ويذكر ان قادة الجيش اتهموا "الرفاه" في مطلع العام الماضي بأنه قد يتسبب باشعال حرب اهلية وتحويل البلاد الى جزائر ثانية على حد تعبير نائب رئيس الاركان او الى ايران ثانية على حد تعبير قائد القوات البحرية. الا ان التطورات اثبتت عكس هذه الأحكام. فالرفاه وقادته فضلوا التضحية بكل حقوقهم السياسية المشروعة على ان يتسببوا بإراقة الدماء او اثارة فتنة وطنية خطيرة. بينما فضل العلمانيون المتطرفون التضحية بمصالح الشعب التركي ومستقبله من اجل المحافظة على نظام فقد روحه وقابليته للتطور منذ عشرات السنين، وأصبح عاجزاً عن التكيف مع القيم الدولية الجديدة في معظم المجالات الفكرية والأيديولوجية والسياسية. وأشارت دوائر الرفاه المقيمة في أوروبا، الى ثقتها بأن حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان سيكون في صالح الحزب، وسيكون بمثابة اساس شرعي لاستمراره ولو في الساحة الأوروبية. وسيشكل عامل ضغط قوي على انقرة لتزامنه مع السجال العنيف الدائر حالياً في بروكسيل حول اهلية النظام التركي للانضمام الى الاتحاد الأوروبي. ولفتت هذه الدوائر الانتباه الى نقطة مهمة في مواقف الدول الأوروبية بهذا الشأن، وهي ان مختلف هذه المواقف، وخصوصاً موقف قمة لوكسمبورغ الاخيرة، لم ترفض اهلية تركيا نفسها كدولة او كمجتمع للانضمام الى الاتحاد، كما فعلت مع دول اخرى طلبت اكتساب العضوية، لكنها رفضت اهلية النظام السياسي الحالي في تركيا واشترطت اجراء اصلاحات محددة لعدد من المشاكل والقضايا، منها احترام حقوق الانسان. وقالت دوائر "الرفاه" انه على رغم عدم الاتفاق مع بعض المطالب والمواقف الأوروبية، ولا سيما ما يتعلق بالمشكلة القبرصية الا انه يعتقد ان بالامكان الوصول الى تسويات مقبولة من كل الجهات في حال حلت المشكلة الجوهرية وهي مشكلة النظام نفسه مع الديموقراطية وصناديق الاقتراع. وأكدت ان "الرفاه" لا يقل عن سواه من الاحزاب العلمانية سعياً للدخول في الاتحاد الأوروبي، على الا يقترن ذلك بشروط مذلة تتعلق بهوية البلاد الاسلامية وثقافتها او يضر بمصالحها الاستراتيجية ودورها في العالم الاسلامي، وخصوصاً في آسيا الوسطى والعالم العربي وإيران وباكستان. ورأت هذه الدوائر ان عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي لا تلبي مصلحة تركية فقط، لكن مصلحة متبادلة اوروبية وتركية في آن، وان "الرفاه" يرى ان العالم الاسلامي لا بد ان يجد في المدى البعيد اتحاده وسوقه المشتركة ايضاً، نظراً لتكامل مصالحه وامكاناته وثرواته وتماثل ثقافاته. وقالت المصادر التركية ان حزب "الرفاه" بنهجه المعتدل وقيادته الحكيمة والتزامه بالنهج الديموقراطي كسب ثقة العالمين الغربي والاسلامي، بدليل ردود الفعل التي صدرت عن حكومات الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية كذلك بعض الدول والمنظمات العربية والاسلامية. ويتوقع ان يكرس قرار المحكمة الأوروبية المكانة التي حققها الحزب ويضفي عليه شرعية دولية لم يستطع تحقيقها اي حزب تركي علماني من قبل، ويؤهله ليكون موضع ثقة الكثير من هذه الاطراف من دون ان يعني ذلك حاجة التيار الاسلامي في تركيا لاعتراف اي جهة خارجية به لأنه يمثل اولاً وأخيراً اكبر تيار اجتماعي - سياسي في البلاد، ويمثل الطبقة المتوسطة تحديداً اكثر من اي تيار حزبي. ولاحظت الدوائر ان الجهة الخارجية الوحيدة التي لم تأسف لحل "الرفاه" بل ايدته وربما سعت اليه، هي "اسرائيل" التي سيجر تحالف المؤسسة العسكرية التركية معها المصائب والكوارث على البلاد. ويذكر انها ليست المرة الأولى التي تعبر فيها اسرائيل عن ان تحالفها مع المؤسسة العسكرية التركية وكراهيتها بالذات ضد الاسلاميين والمحيط الاقليمي والدول المجاورة لتركيا. اذ ان انقلاب عام 1980 وقع في اعقاب تظاهرة شعبية نظمها مؤيدو اربكان في مدينة قونية، وضمت اكثر من مئة الف شخص هتفوا "لا شرقية ولا غربية، اسلامية اسلامية"، كما هتفوا "القدس اسلامية، وفلسطين مقبرة اليهود". واعترف قائد الانقلاب الجنرال كنعان افرين في اول تصريح له بعد الاستيلاء على السلطة ان الجيش قام بانقلابه لإيقاف الخطر الاسلامي على الدولة. لذلك كانت اسرائيل في مقدمة الدول التي أيّدت الانقلاب بعد وقوعه ورأت فيه "مصلحة لها" على حدّ تعبير صحيفة "جيروزاليم بوست" التي قالت "ان تنامي الاصولية الاسلامية في تركيا خطر على اسرائيل ايضاً". وما أشبه اليوم بالبارحة!