على شغفنا بالشقاق هناك اتفاق بيننا، نحن العراقيين الخارجين على الدولة، بوجوب إزالة نظام الحزب الواحد، المندمج بنظام الأسرة الواحدة، واستبداله بنظام برلماني، تعددي، تداولي. ولعلنا نختلف في كل ما عدا ذلك. ولو سألت أي حزب عن محنة العراق وبلواه لقال لك غياب الديموقراطية، يأتيك هذا الجواب من المعارضة، ومن الحكومة على حد سواء، بل حتى من أنصار هذه الأخيرة، أصحاب ما يسمى بالمعارضة "الايجابية" التي تنتظر "تخليص الابريز" في رحاب "باريز"، بمجيء المخلّص طارق عزيز في زيارة عابرة. ولو استفسرت عن علة غياب الديموقراطية لرجعت شبكة للسؤال بعيد وفير: فالقومي العربي سيقول إن الديكتاتورية ترجع إلى قلة العروبة، والقومي الكردي سيشكو من كثرة العروبة، أما الاجتماعي فسيفرد طبقات تحب الاستبدال، والإسلامي سيشير إلى قلة الايمان، والليبرالي سيرفع اصبع الاتهام بوجه الشموليين، والمدني بوجه العسكر، والملكي بوجه الجمهوري، والوطني القح بوجه الأعداء البرانيين، والحاكم بوجه المعارضة. وهذا القول الأخير ليس تقولاً، اقرأوا تقرير المؤتمر القطري الثامن وخطابات من الرئيس العراقي، تجدوا أن الديموقراطية كانت قاب قوسين، لولا "تمرد" الاكراد و"خيانة" اليسار، وحروب الأعداء! لو جمعنا حصيلة الاتهامات فإننا جميعاً، كل العراقيين، أحزاباً وجماعات، تاريخاً ومجتمعاً، حماة الديموقراطية وجلادوها. لم أجد غير استثناء واحد وحيد فردي فيما قاله كاتب مخملي من أنه يرفض ما سماه "ديموقراطية العبيد"، مفضلاً العبودية السياسية الخالصة من أية شائبة. وهذه تشبه عبودية المهنة الخالصة لوجه الخالق في عالم اللاهوت الكنسي. لعل منابع الورع واحدة. وكما ترون فإن خلافاتنا ليست قليلة، ولعل خير ما يصنفنا هو الكلمات الطريفة للسوسيولوجي الكبير حنا بطاطو: عراقيان؟ ثلاثة أحزاب. أما كيف ينشق عراقيان إلى ثلاثة أحزاب، فلعلها معجزة لن يجترحها أحد سوانا. فنحن شعب شغوف بالشقاق. بل أن شعارنا الديكارتي هو: أنا اخالف إذن أنا موجود. واعتقد ان بعض المعارضات العربية تبدو، بالقياس إلينا، معاكسة ظريفة. لعلنا مجانين. إذا كان العراقيون كلهم مجانين، فإن الجنون يغدو الحالة السوية، والعقل شذوذاً. لعلنا نشبه وصف ديستويفسكي للروس الذي يعيش أية فكرة يتلقاها حتى الثمالة. أحد الأجانب قال، مرة، إنه لا يعرف العراقي من لهجته فهو يجهل العربية، بل من موقفه، فكلما قلت له أمراً، أجاب: بالعكس! لعل هذه الأوصاف تصدق علينا. وأجد في ذلك منبع ثراء. فنحن مجتمع بالغ التنوع: معظم أديان الأرض خليط من الأقوام، والحضر، والقبائل. مزيج عجيب لا يبزه مثال سوى تنوع الهند. وكلّ ملّة أو قوم وطائفة أو قبيلة، بل قل كل صنف، ظل حبيس جماعته الصغيرة آلاف السنين، ولم يبدأ بالخروج إلى رحاب الجماعة القومية، الأوسع، إلا أخيراً. لا يعرف كيف ورّط الحاكم الحالي نفسه في وهم فرض مثلية ايديولوجية، مفصلة على مقاس كل العراقيين. ولعله أدرك عقم هذا الادعاء حين تحول من رموز العروبة إلى رموز كثيرة: نبوخذنصر وحمورابي السابقان للعروبة والإسلام وصلاح الدين المسلم الكردي والعباس المسلم الشيعي. إنها محاولة يائسة لاصطناع تعددية رمزية مقابل إسكات التعددية الحقيقية في المجتمع. يعيب علينا العرب هذا التعدد. ولم أجد مقالاً عن الشأن العراقي في صحف لندن وباريس الناطقة بالعربية قلماً عربياً لا يكرر حزمة من الطعون فينا. وهي طعون ظريفة قدر ما هي بلهاء. هناك قدر من الاهتمام المفرط بالشأن العراقي، ثم بالتبعية بالمعارضة. وهذا أمر مفهوم بسبب الطابع المأزوم للوضع العراقي. أول ما يعاب علينا أن المعارضة العراقية في "الخارج" أنها ليست في "وطنها". يقول هذا بكل صدق حتى عرب مقيمون في أوروبا. هم مقيمون لمجرد أن فرص العمل غير متاحة. ونحن موجودون لأن فرص البقاء على قيد الحياة مغيبة. ما الضير؟ ارجع إلى بلدك، وانشنق، حتى تكون معارضاً وطنياً عن حق. فالمعارض الجيد هو المعارض المتدلي من حبل مشنقة. وثاني ما يعاب علينا اننا مشتتون، متشرذمون، منقسمون. ألا يفترض منطق الحرية ان لكل جماعة الحق في التعبير عن النفس والاختلاف. هل نشق البنادق في صدور بعضنا كي نتوحد ب "دم وحديد ونار" تحت خيمة "رسالة واحدة" معمدة بالقسر. بدل أن يعاب على العراقيين الخروج من بلادهم حيث عقوبة الانتماء لغير الحزب الحاكم هي الاعدام، يفترض بالصحافيين ان يعيبوا على الحكومة التي اضطرت نحو 3 ملايين عراقي إلى الهجرة والتهجير، وجلهم من الفئات المتعلمة أو أصحاب الخبرة، وحملة الشهادات العليا، وبينهم حشد من أبرز شعراء ومثقفي البلد. ولكن ما يهم هو الدولة. ذلك لأن المثقف الوسطي، وممتهن الصحافة، يعبد الدولة. بل في الحقيقة، يخشاها. فهو إما ملحق بها في بلده أو مستجد منها خارجه. لذا تراه يستمرئ ويستسهل الشطب على ثلاثة ملايين عراقي في الشتات ونحو عشرين مليون عراقي في الوطن، لصالح حكومة من حفنة عوائل وعشائر. يعاب أيضاً على المعارضة أنها تتعامل مع الأجنبي، وبالذات الولاياتالمتحدة وبريطانيا. قد افاجئهم بالقول إن في هذا الاعتراض الكثير من الصواب. المشكلة أن هناك تنظيمين اثنين لا غير يتعاونان مع هاتين الدولتين، في المعنى الدقيق لكلمة تعاون. وان حشداً هائلاً من الأحزاب العراقية يعارض حتى اللقاء التباحثي الذي يندرج في باب التحرك السياسي العام. والمشكلة مزدوجة. فبينما تركض أميركا وراء المعارضة، تركض الحكومة العراقية وراء أميركا. بتعبير آخر ان الحكومة العراقية الحالية أشد تحرقاً من المعارضة للتعاون مع الولاياتالمتحدة، ونيل الصفح منها، وفتح الأبواب لشركاتها، بل والامتثال لما تريده في الشرق الأوسط بما في ذلك التحاور مع إسرائيل. يذكر أن المعارضة تلجأ إلى المنفى لتعذر البقاء في الوطن. وما من ملاذ تلجأ إليه إلا ويتحول في الاعلام الرسمي إلى "خيانة عظمى". فالقاطن في سورية عميل لدمشق، وساكن إيران عميل للمجوس، والهارب إلى ملاجئ أوروبا "يعيش على موائد الأجنبي". أي قدر من الابتذال يحتاج المرء كيما يردد مثل هذه البلاهات. لقد هُجر آلاف الشيعة العراقيين قسراً إلى إيران، ثم اطبقت الماكنة الدعائية عليهم ل "تثبت" بعد اجتيازهم الحدود دفعاً بأخامص البنادق، أنهم "خونة". لو طبقنا هذا المعيار على الرئيس العراقي نفسه لتوجب اعدامه مرتين. مرة لهروبه إلى سورية، ومرة لاقامته في مصر، ونشاطه كمعارض ضد بلده من بلد آخر. أما التعامل مع دولة غربية، فهو، ولنتفق على هذا، يدخل في باب التحريم، إذا كان يقوم على تلقي المال، وعلى التنسيق، وما شاكل. واعتقد ان أول من أرسى تقاليد هذا التعامل المخابراتي هو حزب البعث الحاكم في العراق بالذات، في عام 1963، يوم جاء بالقطار الأميركي المعروف، وعام 1968 يوم تعاون، وبوعي كامل، مع ممثلي المخابرات البريطانية لازاحة عبدالرحمن عارف، الذي اعترف لحنا بطاطو ان شركات النفط دفعت 5 ملايين دولار ثمناً لرأسه. يفترض بالمعارضة العراقية، أن تتصل وتتحاور مع كل الدول العربية. وأن تتصل وتتحاور مع كل جيران العراق. فمستقبل العراق، يتحدد بفعل عوامل عديدة، بينها شروط وجوده الاقليمية. ويفترض بالمعارضة العراقية أيضاً أن تتصل وتتحاور مع كل الدول الأعضاء في مجلس الأمن، فهي صاحبة قضية، شأنها شأن منظمة التحرير والسيد ياسر عرفات فهو صاحب قضية. ولكن ما لا يمكن قبوله اطلاقاً، أن تتوجه أية قوة عراقية لطلب المال من أية حكومة، أو أن تعمل وفقاً لما تمليه هذه الحكومة أو تلك. وهذا هو الفارق بين العمل السياسي، وبين الاستجداء أو الارتزاق. وتخلط الصحافة أولاً بين الأحزاب العراقية التي لا تقبل حتى التحاور مع أية حكومة أخرى، وبين تلك التي تقبل بمثل هذا التحاور. كما تخلط الصحافة ثانياً بين الأحزاب التي تتحاور على أساس بحث المستقبل السياسي للعراق، والأحزاب التي تعقد علاقات تمويل. يمكن القول إن هذه الأخيرة لا تشكل سوى اقلية قليلة، تمكن مناقشتها أو نقدها، أو حتى رفضها، تبعاً لموقف ومزاج كل طرف. باختصار يعمم النقاد العرب "مروق" أو "مثلبة" أقلية، من أجل تشويه صورة الأكثرية، وذلك في شماتة لا نظير لها، شماتة لا تميز بين الغث والسمين في المعارضة، كما لا تميز بين قضية شعب عراقي تنتهك حكومة غير شرعية كل حقوقه، بل وجوده منذ ثلاثة عقود، وبين أخطاء حقيقية أو مفترضة، لهذا الطرف المعارض أو ذاك. والعجيب أن وابل النقد يأتي من أناس لا يجرؤون على نقد شرطي مرور في بلادهم، بل لربما كانت حماستهم المفرطة في الشأن العراقي، تدخلاً وتحركاً ونصحاً، هي الوجه الثاني لعجزهم داخل أوطانهم. ولا يذكر أن العراقيين قالوا مرة لعربي أو أعجمي ان يحب زعيم بلاده، أو ان يعارض أو لا يعارض. فلكل بلد أحواله. وأهل مكة، كما يقال، أدرى بشعابها. وإذا كان لنا أن نستمد النصح من أحد، فإنما نستمده من ادوارد سعيد وهو يحتفظ بالمسافة النقدية بينه وبين السلطة الفلسطينية، مدركاً أن صراعها مع عدو خارجي لا يضفي عليها القداسة، ولا ينجيها من المحاسبة والزجر، بل حتى الرفض والاستبدال. هل نخوض في تحليل أسباب "حب" بعض الكتبة للزعيم العراقي؟ هل هي الحاجة إلى بطريارك كبير حتى لو كان في خريفه؟ ربما. الاعتقاد بوجوب أن يقاتلوا الأعداء حتى آخر قدم حافية عراقية، نيابة عن ساسة مصابين بالعنة؟ ربما. عبادة البقرة الهندوكية المقدسة التي يسمونها دولة؟ جائز. علاقات تصاهر مع الحاكمين في بغداد؟ ممكن. الفرق في أوهام ايديولوجية؟ محتمل. ابداء الكره لحاكم البلاد بإظهار الحب لحاكم آخر؟ وارد. إنها غابة متشابكة من الاحتمالات، لعل أبرزها المعارك الدونكيشوتية التي يفتعلها الحاكم، أو اطلاقه الصواريخ على إسرائيل. لو كان اطلاق بعض صواريخ على بلد معادٍ يعطي الحق للحاكم في أن يحكم مدى الحياة، لانطلقت الصواريخ من كل بقاع البر والبحر لتهدّ كل بقاع المعمورة. في كل هذه التأويلات يغيب سؤال أساس، حقنا في اختيار الحاكم وعزله، حقنا في فك الصيام عن حرية القول والرأي والعمل، وحقنا في ضمان حق الحياة، وحقنا في الخروج من عالم العشائر، وحقنا في نزع القدسية عن حكومة فاشلة مدمرة. إنه سؤال الحرية لأمة كاملة. وكل تحليل سياسي تغيب عن أنظاره هذه الأسس ينزلق إلى وهدة التهويش، إلام نستمرئ صخب اللامعنى؟ * كاتب عراقي.