انعقد المؤتمر الرابع عشر لاتحاد "كتاب المغرب" في ظرف أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه ملتبس، وذلك على جميع الصعد المرتبطة بفعل الكتابة وحقول الثقافة في المغرب، فمن ناحية الأوضاع الذاتية لاتحاد... كتاب المغرب عرفت السنتان المنصرمتان من عمر هذه الجمعية الثقافية المغربية تراجعاً لافتاً للانتباه، في أنشطته التقليدية، وفي حضورها الذي تميزت به بل وحتى في كيانها التنظيمي الداخلي، إذ قدم خمسة أعضاء استقالتهم من المكتب المركزي احتجاجاً على نمط التسيير الذي سلكه الرئيس السابق للاتحاد السيد عبد الرفيع الجواهري. والظاهر أن القلق الذي أصاب كيان "اتحاد كتاب المغرب" لا يرجع، في شكل استثنائي، الى أسلوب تدبير شؤونه أو الى غياب تصور دقيق لما يجب أن يقوم به الاتحاد في الإبداع والثقافة فقط، وإنما هو قلق عام تعود أسبابه الى اعتبارات مؤسسية وسياسية وتاريخية. ذلك أن "الاتحاد" إذا كان قد تفاعل، في شكل ملحوظ، مع الأسئلة الكبرى التي كانت تطرح على المجتمع والثقافة المغربيين في الستينات والسبعينات، فإن أواسط الثمانينات تميزت بظهور مؤسسات جديدة انشغلت بالشأن الثقافي وجعلت من الكتابة والإبداع موضوعات حاضرة باستمرار في أنشطتها ولقاءاتها. وارتبطت هذه المؤسسات بالجامعة بالدرجة الأولى قبل أن تشمل أطر جمعوية جديدة، فقد توسعت الخارطة الجامعية في شكل كبير في بداية الثمانينات، وأصبح في المغرب اثنتا عشرة جامعة على طول الجغرافيا المغربية، وتميزت كليات بأنشطة إبداعية وثقافية انتزعت، بالتدريج، من "اتحاد كتاب المغرب"، كثيراً من اهتماماته. وما دام أغلب المثقفين المغاربة ارتبطوا بالمؤسسة التعليمية، فإنهم وجدوا أنفسهم داخل جامعاتهم، وأحياناً من موقع المسؤولية، ينظمون لقاءات وندوات ويصدرون كتباً ومنشورات في ظروف أفضل من تلك التي كان يتحرك داخلها الاتحاد. هذا فضلاً عن أن السيرورة الخاصة للاتحاد، بما تميزت به من صراعات وحسابات، أنتجت متمردين ومنسحبين وساخطين على الأساليب التي اتبعت من طرف مسؤولي الاتحاد السابقين في تنظيم المؤتمرات والأنشطة، وفي تسيير العلاقات بين أعضائه. فاضطر البعض منهم الى تأسيس جمعيات متخصصة أو مختبرات موضوعاتية، من قبيل "بيت الشعر" في المغرب، ومختبرات السرديات في كليات عدة، ومراكز بحث في السيرة الذاتية والكتابة الروائية... إلخ. ووجد اتحاد كتاب المغرب نفسه يدور في حلقة مفرغة، بسبب تبرم عدد كبير من أعضائه وابتعادهم عن دائرة نشاطاته أو بحكم الانحسار الفكري الذي أسهم في شل حركته وتراجع اشعاعه. والواقع أن اتحاد كتاب المغرب شكل "تخيلاً" أكثر مما مثل حقيقة ثقافية في المجتمع المغربي. فالصورة التي تكونت عنه - وحرص عدد كبير من الناس على تضخيمها - لا تتطابق مع حجم تأثيره في الواقع الثقافي، بل واختلط هذا "التخيل" ذاته، ابتداءً من التسعينات بحنين الى ماضٍ وهمي ليولد حال الشلل شبه التام الذي أصاب الاتحاد في السنتين الفارطتين. أما من الناحية السياسية فمما لا شك فيه أن اتحاد كتاب المغرب كان يتقدم الى المجالين الثقافي والسياسي المغربيين والعربيين باعتباره اتحاداً غيوراً على استقلاليته، بل وبرزت في السبعينات، على الصعيد العربي، في طليعة الهيئات الثقافية، المطالبة باستقلال العمل الثقافي عن السلطات الحاكمة. وكان الناطقون بإسمه يشعرون بزهو كبير وهم يتحدثون عن الحرية والنقد والتغيير. لكن، إذا كان هذا الخطاب صحيحاً عربياً، وصحيحاً في علاقة الاتحاد بالنظام السياسي المغربي، فإنه لم يسلم من المزايدات الحزبية والحسابات الضيقة التي رهنت حركية الاتحاد وأعطت، في كثير من الأحيان، صورة مشوهة عن الممارسة الديموقراطية التي كان يتعين على نخبة البلد اقتراحها في سياق الصراع السياسي العام في المغرب. كم من مؤتمر طبخ مكتبه المركزي وتعين رئيسه أسابيع عدة قبل انعقاده؟ وكم تفرج الناس عن البهلوانيات الكواليسية لترتيب الكوطا بين ممثلي الأحزاب في المكتب المركزي؟ قد يقال بأن الأمر عادي، وهذا الأسلوب يجري العمل به في كثير من المؤسسات. فقول من هذا القبيل وارد، لكن ما لا يتعين أغفاله هو ارتهان اتحاد كتاب المغرب للمؤسسة الحزبية التي ينتمي اليها رئيسه، وتكييف أنشطته مع التوجهات السياسية الحزبية العامة، ومن ثم فالاستقلالية المحتفى بها كانت تخدم استراتيجية مرحلة سياسية محددة، لم يعد من الممكن الآن الحديث عنها طالما أن احزاب المعارضة السابقة تتحمل المسؤولية الحكومية الآن، وأحد الرؤساء السابقين للاتحاد أصبح وزيراً للثقافة. فما هي مسوّغات الدفاع عن الاستقلالية في الوقت الذي ينتمي فيه رئيس الاتحاد لحزب الوزير الأول نفسه؟ وما هي المقومات الذاتية التي تسعف الاتحاد للخروج من مآزقه التنظيمية والثقافية والتواصلية؟ من جهة ثالثة، لا شك في أن انعقاد هذا المؤتمر جرى في سياق تحولات كبرى تمس وجود المثقف أو الكاتب ذاته. فضجيج السياسة أصبح طاغياً، وتردي الوعي يعاند كل مبادرة تحررية، واجتياح النزعة الاستهلاكية ولدت سلوكات تستسهل الفعل الإبداعي وتستخف بالعمل الثقافي، وتراجعت المؤسسة الجامعية قياساً الى الإكراهات الاقتصادية والعلمية المفروضة... إلخ، لكن ذلك يضع على المثقف أسئلة كبرى خصوصاً وان المرحلة تتميز بتسابق على المواقع وبالابتعاد عن الأوهام القديمة، وبالتنافس على الاقتراب من صاحب القرار. فطبيعة جبهة الخصوم تغيرت، واقتناص المناسبة أصبح محدداً للحركة، مهما كانت التبريرات والآليات الدفاعية. قد يصعب التعميم على جميع الحالات، لكن تقلب النخب وفر للنظام السياسي فرصاً للاستيعاب والدمج بسهولة أكبر ما دامت الجاهزية متوفرة والظرفية مواتية. ليست هذه الحال مميزة للمغرب، لكن انعكس هذا التحول، في شكل كبير، على هوية اتحاد كتاب المغرب وعلى نوعية أعضائه وحجم أنشطته، وجاء المؤتمر الرابع عشر ليكثف كل هذه الأعراض بطريقة قال عنها أحد المؤتمرين بأنها أقرب الى "مأتم" أكثر مما تفصح عن منعطف في اتجاه اعادة البناء والانطلاق من جديد. قد لا تكون هذه الحقائق غائبة عن التشكيلة الجديدة للمكتب المركزي، وأغلبها من عناصر شابة واكبت، وتواكب تحولات المغرب الثقافية والسياسية، لكنها على رغم الوعي بثقل هذه الحقائق ودورها المشوش على الفعل الثقافي، يبقى السؤال مشرعاً على توفر الإرادة الفردية والجماعية لضخ مقومات الحياة في جسم تنظيمي وثقافي على وشك الاحتضار، من جراء الوصاية السياسية وحروب المواقع والحسابات الذاتية الضيقة.