كان من الجدير ربّما أن يبحث الإتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب عن عنوان آخر لندوته السنوية التي عقدها قبل أيام في أحد فنادق بيروت. فالندوة التي حملت عنواناً عريضاً هو "المثقف والهوية" لم تجذب إلا قلّة قليلة جداً من أهل الأدب والثقافة وبدت القاعة خلال الجلسات التي امتدّت سحابة يومين شبه خالية أو خالية تماماً في أحيان. وبدا المنتدون كأنهم هم المتفوّهون والمستمعون في الحين عينه وغدت القضايا التي طرحوها تفتقر فعلاً إلى مَن يناقشها ويناقشهم حولها. فات المنتدين أنّ "قضية" الندوة العامّة والموضوعات التي أثاروها باتت جميعها مضجرة بل مدعاة لليأس والإحباط بعدما أصبحت بمثابة شعارات برّاقة وخاوية لا يخلو منها أي مؤتمر قومي ولا أي ندوة "عروبية". ولعلّ موضوعات مثل "العوربة" والتطبيع والهوية والعولمة والتراث والديموقراطية والغزو الثقافي وسواها أضحت أقرب إلى المفردات التي تصنع "معجم" كلّ الخطباء الذين يعتلون المنابر مندّدين ومتوعّدين وداعين إلى المقاومة "العروبية" التي لم يستطع الجمهور العربيّ النخبوي والعريض أن يستوعبها ولا أن يدرك أبعادها والوسائل. والموضوعات التي طرحها المنتدون الذين يمثلون الأدباء العرب في ندوتهم كانت طُرحت سابقاً في ندوات عقدها بعض دعاة القومية العربية ولم ينجم عنها سوى توصيات نظرية أو خطابية تشبه كلّ التوصيات التي اعتادها الجمهور والمنتدون أنفسهم. ولعلّ قضايا كالعولمة مثلاً أو الهوية والديموقراطية تحتاج فعلاً إلى قراءة عميقة وليس إلى مجرّد خُطَب تُلقى على المنابر. وحتى الآن لم تثمر معظم التوصيات التي رفعت في مثل هذه الندوات أو اللقاءات بل هي كلّما تراكمت بعضها فوق بعض ازداد التخلّف وازداد اليأس بدوره، اليأس من أيّ إمكان للخروج من حال الإحباط والتراجع والجهل وسواها من الأحوال التي يعانيها العرب جميعاً. تحدّث البعض في الندوة بإصرار عن الهويّة القومية كما لو أنّهم يتحدّثون عن قضّية ملتبسة لا تملك ما يُفترض بها أن تملك من مواصفات وخصائص. فما هي هذه الهوية القومية التي لا ينثني معظم الخطباء عن الجهار بها؟ بل كيف السبيل إلى جعلها هويّة حقيقية وإلى تحريرها من الوهم الذي يعروها في مرحلة عربية هي من أشدّ المراحل تراجعاً وتقهقراً؟ ثمّ ماذا عن المثقف العربي وعن دوره الذي يجب أن "يُفعّل" وهو مثقّف شبه مقموع عموماً وشبه محذوف من الحياة السياسية؟ وماذا أيضاً عن المشروع النهضوي الذي غالباً ما يجري الكلام عنه من غير أن تلوح منه بارقة ولو ضئيلة؟ ولعلّ اللافت أن البعض يتحدثون عن الديموقراطية باعتزاز وحماسة متناسين ومتجاهلين أنهم أبعد ما يكونون عنها وقد حلا للبعض منهم أن يمارسوا في مواقعهم لعبة السلطة في ما تحوي من قمع ورقابة واتهام وإدانة. أما الدعوة المعلنة أو المضمرة إلى "العوربة" تيّمناً بما يسمّى "عولمة" فهي دعوة لفظية خالية من أي معنى وتحتاج إلى مَن يبحث في معطياتها بحثاً علمياً وسياسياً. ليت الإتحاد العام خصّص ندوته السنوية لشؤون الأدب وهموم الأدباء متخلّياً عن القضايا "الكبيرة" التي ينجح سواه في طرحها. بل ليت الإتحاد انصرف إلى تنظيم نفسه أوّلاً وإلى تنظيم الإتحادات العربية التي تحتاج إلى أن تعيد النظر في غاياتها وبناها وفي المهمّات الملقاة على عاتقها وهي مقصّرة عنها أيّما تقصير. أما أن يفد رؤساء الإتحادات الأدبية وبعض الكتّاب العرب إلى بيروت ليجدوا أنفسهم هم المنتدون والمستمعون في قاعة خالية فأمر لا يليق لا بجمهور بيروت ومثقفيها ولا بالأدباء واتحاداتهم. لكنّها العناوين التي باتت تشبه الشعارات لم تعد تلقى أيّ صدى ليس لدى الجمهور اللبناني فقط بل العربيّ عموماً.