لم يتوقف النقاش يوماً، عربياً وعالمياً، حول دور المثقف في المجتمع وفي صناعة التحولات التاريخية. كما لم يتوقف يوماً الاختلاف في وجهات النظر حول هذا الدور، بين الإعلاء من شأنه احياناً، وبين التقليل من اهمية هذا الدور. في منطقتنا العربية، عاد هذا النقاش يحتدم خلال السنوات الأخيرة مع الانتفاضات العربية التي طرحت موقع المثقف ودوره، وسط سجالات عن تراجعه وتخاذله وعدم إدراكه موجبات المرحلة الراهنة وما تتطلبه. النقاش لا يزال مندلعاً، ولا يخلو، كالعادة، من اتهامات متبادلة تصل احياناً حد التخوين والارتداد والهروب من المسؤولية. سعى «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» على امتداد الأعوام السابقة الى سد ثغرة فعلية في هذا المجال من خلال الندوات التي كان يعقدها، ويشرك فيها مثقفين من مختلف الاتجاهات والمشارب، ثم يصدرها في كتاب مرجعي. أصدر المركز مناقشات ندوته الأخيرة في كتاب حمل عنوان «دور المثقف في التحولات الأخيرة»، الذي ضم مساهمات لمثقفين عرب من مختلف الأقطار، ناقشت ستة محاور هي: الأول بعنوان المثقف العربي وأدواره، جدلية التحولات، الثاني بعنوان: المثقف في السياق العربي- الإسلامي، الثالث بعنوان: المثقف العربي وأدواره المتجددة، اسئلة الفكر والممارسة، الرابع بعوان: المثقف والثورات العربية، اسئلة الهوية والوظائف المفتقدة، الخامس بعنوان: المثقف العربي وأدواره المتجددة، قضايا وتجارب، السادس بعنوان: أدوار المثقف العربي في العصر الرقمي والشبكي. من المعروف ان مثقفين كثراً لعبوا أدواراً اساسية في مواجهة أنظمة الاستبداد في العالم إجمالاً وفي العالم العربي، فدعوا الى الحرية والديموقراطية وحق الشعوب في سيادتها، ودفعوا أثماناً لمواقفهم. في العالم العربي، وبعد الانتفاضات العربية، تبدو الحاجة ماسة الى ما يمكن قوله ب «ثورة ثقافية» جديدة، تقوم على أنقاض الهيمنات الأيديولوجية التي حكمت الحركات السياسية والفكرية في المنطقة العربية، وشهدت اخفاقات متتالية في الحكم والمعارضة على السواء، ولم تؤسس لحداثة سياسية وفكرية كما عرفه عصر التنوير في أوروبا. فالمعاناة التي تعيشها شعوب المنطقة تفترض مثل هذا التحول في موقع المثقف وتفرض عليه التقاط ما يفرزه الواقع يومياً لإنتاج مفاهيم ثقافية وسياسية جديدة. في السياق العربي – الإسلامي، لا يمكن إنكار أهمية الدور الذي لعبه مثقفو عصر النهضة الذين طرحوا أسئلة حقيقية حول المجتمعات العربية والإسلامية والمعوقات التي تمنع تقدمها ودخولها في الحداثة، وهي أسئلة لا ينكر أحد أن بعضها راهني على رغم مرور فترة زمنية بعيدة على طرحها. إن دور المثقف العربي اليوم كبير جداً في تجديد أسئلة عصر النهضة وتجاوزها في آن من أجل حداثة حقيقية تواكب التطورات التقنية، لتبني ثقافة فكرية وفلسفية عمادها الدعوة لتجاوز الماضي والتموضع في العصر ومواكبة تطوراته، وابتعاد المثقف عن الفوقية والنرجسية التي طبعت مسلك مثقفين عرب وأعاقت دورهم في التنوير والتحديث. لا يخفى في هذا المجال أن قضية الإصلاح الديني تعتبر جزءاً من ثقافة الحداثة وإنتاجها، خصوصاً بعد أن تحول الدين الى أداة سياسية توظفها التنظيمات الإرهابية في أعمالها. من المسائل التي تطرقت اليها أبحاث الكتاب تراجع دور المثقف التقليدي، الذي يعتبر صاحب هوية فكرية محددة، وخصوصاً ما كان يطلق عليه «المثقف العضوي» وفق تعبير الفيلسوف الإيطالي غرامشي. تراجع هذا الدور لمصلحة ما يعرف ب «الخبير» بوصفه قادراً على ملء الفراغ الذي تركه المثقف التقليدي. بات الخبير ضرورة تاريخية للإسهام في تطوير عملية التفكير في قضايا العرب الكبرى في هذه المرحلة التاريخية، وفي مرحلة سيادة العولمة وهيمنة التكنولوجيا على المعرفة. لكن النقاش لم يحسم لمصلحة انتهاء دور المثقف التقليدي في صناعة ثقافة سياسية ترشد الممارسة، وإن يكن المثقف بحاجة الى مراجعة أدواته المعرفية وتجديدها انطلاقاً مما تقدمه معطيات العصر الرقمي الحديث. في هذا المجال، يبقى صحيحاً تخلف المثقفين العرب عن اللحاق بركب العصر وعن فهم معضلات مجتمعهم والحلول اللازمة لها، وهو أمر بدا واضحاً في الانتفاضات العربية الأخيرة. احتلت اسئلة الهوية والوظائف المحددة للمثقف حيزاً انطلاقاً من تطبيقها على الثورات العربية. انطلاقاً من سؤال «من نحن»؟ جرى نقاش للإشكالات المركزية التي تفاعل معها المثقف العربي، والتي أظهرت ضعف تفاعله مع القضايا المطروحة، مما جعله بعيداً من الجمهور الذي لا يريد تنظيرات بعيدة من الواقع، بمقدار ما يرغب في حلول عملية. لقد أظهرت الانتفاضات العربية غربة المثقف عن إدراك ما يحصل، بل تاه المثقفون بين تضخيم للأحداث وإعطائها أبعاداً ثورية وتغييرية فوق ما تحتمل، فيما ذهب قسم آخر لتبخيس الحدث وتصويره مؤامرة خارجية لتقسيم المنطقة العربية. كان الطرفان بعيدين عن فهم التطورات التي عصفت بالمنطقة العربية، فلا اعتبارها ثورات تغييرية يقع في مكانه، ولا اعتبارها ستقيم أنظمة ديموقراطية صحيح. لكنها انتفاضات فرضها الاحتقان المتراكم الناجم عن سلطة الديكتاتورية والاستبداد على الشعوب العربية، وفشل الأنظمة في تطوير حياة شعوبها، ناهيك بمنع الشعب من ممارسة أبسط حقوقه في الحياة السياسية. في جانب آخر، كانت الكارثة من ذلك النمط من المثقفين الذين التزموا نظرية المؤامرة، وتحولوا الى دعم أنظمة الاستبداد، خصوصاً بعد أن عمدت الأنظمة الى خلق تنظيمات إرهابية لإجهاض الانتفاضات الشعبية. والمأسوي في هذه الفئة، خصوصاً اليسارية منها، انها عانت من ظلم واضطهاد هذه الأنظمة تحديداً. كشفت الانتفاضات مأساة المثقف العربي، سواء في اللهاث وراء الحدث وتضخيمه، أو في تبرير الاستبداد مجدداً. من المآسي التي صاحبت المثقفين، إضافة الى تحالف قسم منهم مع أنظمة الاستبداد، انهم يفتقدون الى الديموقراطية، سواء في علاقتهم بالجمهور او في ما بينهم. رفض الآخر والحط من قيمته يبدو كأنه قانون يحكم علاقتهم ببعضهم وبالمجتمع. يضاف الى ذلك عجزهم عن إنتاج ما يفيد هذه الانتفاضات ويرشدها في ممارستها ويصوّب بوصلة حراكها السياسي والجماهيري. لقد أثبتت الأحداث أن ما كان يتمتع به مثقفو عصر النهضة وملامستهم لمشكلات مجتمعاتهم كان أهم بكثير من هموم مثقفي عصرنا الحاضر. من المسائل المهمة التي تطرقت اليها بعض الأبحاث يتصل بدور المثقف في التحولات التاريخية في العلاقة مع العصر الرقمي والشبكي الذي يهيمن على العالم اليوم. لا شك في أن شبكات التواصل الاجتماعي اليوم تلعب دوراً أساسياً في المعرفة والتأثير في الحياة السياسية. كثير من المثقفين الشباب يمضون أوقاتاً كبيرة على شبكات التواصل الاجتماعي، ويعتبرون الدخول الى عالمها شرطاً أساسياً في انتاج المعرفة. برزت أهمية شبكات التواصل خلال الانتفاضات العربية، وساهمت في ربط الأحداث في دول الانتفاضات وتقديم المعلومة والصورة بأسرع وقت. فالتكنولوجيا الحديثة قضت على منطق الزمان والمكان، بمعنى اختزالهما عبر اختراق كل الأمكنة وفي كل الأزمنة، وتقديم الخبر بشتى أنواعه الى كل البشر، وهو أمر لم يكن متوافراً سابقاً. يضاف الى ذلك كون الشبكات هذه قد حدّت كثيراً من رقابة سلطات أنظمة الاستبداد وقمعها لحرية الفكر والتعبير.