ليس في رفع "أربعين مفكراً وباحثاً وكاتباً وشاعراً" على هذا الترتيب "ممثلين... مؤسسات المجتمع المدني النسوية والشبابية"، قدموا بيروت "من شتى أنحاء العالم العربي"، والتقوا أمثالهم عدداً وصفةً "من المثقفين اللبنانيين"، فعقدوا "اللقاء الثقافي العربي الأول" الأول؟ فعلاً؟ "على مدى ثلاثة أيام" 3 إلى 5 الشهر الثاني عشر 1998، وختموا لقاءهم وعقدهم بمسك الشعار: "من أجل التحرر العربي والتضامن العالمي وتقدم الإنسان" - ليس في رفع صوتهم بالدعوة، للمرة الأولى ربما بعد الألف ألف مرة على وجه التأكيد، إلى "صوغ مشروع نهضوي عربي ديموقراطي إنساني"، ما ينتطح فيه عنزان أو يعلق عليه كاتب، أو "كويتب"، تعليقة. فمثل هذه اللقاءات والمؤتمرات والندوات هي من آيات "عمل" المثقفين، عرباً أو غير عرب، و"التزامهم" ما يلتزمون من قضايا كبيرة وعظيمة لا يقدم التزامهم إياها شيئاً ولا يؤخر، لكنه يُطمئن. وما يَطمئن اليه أصحاب اللقاءات والندوات والمؤتمرات، وأهلُ صناعتها وتمويلها فالأمر الوحيد الثابت على صفحة هذه "الأسواق" الرجراجة والمائجة هو أن وراء كل "سوق" منها ممولاً، يدعو إلى الفحص والنظر. فهو، أي باعث من يسمون أنفسهم وبعضهم بعضاً مفكرين، إلخ. على الإطمئنان، قرينة - قد تخطىء كثيراً إذا حُملت على مرآة المشكلات التي تعتمل في المجتمعات العربية، أو جماعاتها، وقد تقترب من الأمانة إذا حملت القرينة على مرآة صناعة الأعذار الثقافية العربية. فأصحاب المقالات المعتذرة، ورواد الأسواق الخطابية، لا ينفكون في مقالاتهم وتوصياتهم وبياناتهم، الأولى على الدوام، من طلب أسماء القوة والسلطان. ودأبهم في هذا ترجمة هذه الأسماء، بعد أن تكون شاعت وفشت من طريق وكالات الأنباء والأخبار "العالمية"، أي الأميركية والأوروبية. وكان هذا شأن بعض أصحاب "النهضة" في مطلع القرن أو أوائله: فذهب سلامة موسى، متواضعاً وعلى بينة من شأن نفسه وأمثاله على خلاف مفكري اليوم وباحثيه، إلى أن غاية قصده وجهده كانت إذاعة برقيات "رويتر"، الوكالة، في الناس. أما الفرق بين أهل ذاك الزمان وأهيل زماننا المتعاظمين والمتفاخمين فهو حسبان أهل الزمان "الأول" أن الفعل والأثر يعودان إلى المصدر المترجَم وإلى أفكاره. فليس لهم، ولا في مستطاعهم، "تعريب" ما ينقلون عنه أو "توطينه"، أي صبغه بصبغة العروبة أو الوطنية. أما أهل الزمان الثاني إذا تُرك تصغيرهم صرفاً ولغةً، ومنهم أصحاب "اللقاء الثقافي العربي الأول"، فيرون أنفسهم فوق النقل والترجمة، وأهلاً لصوغ ما يصوغون من مشروعات عريضة مميزة "المضمون" مشروعهم النهضوي "عربي ديموقراطي إنساني" في "مضمونه" من "التوجه" "وحدوي في توجهه"، وينبغي أن يكون "التوجه"، في مقابلة مضمون يجمع الخاص العربي إلى العام الإنساني، هو الإطار أو المناط، على قول الأصوليين، الفقهاء وليس القَتَلة وأهل السكاكين والسواطير. ويجلو أصحاب البيان بعض غموض بيانهم في فقرة تتناول "أنسنة الحضارة المعاصرة" المعذرة عن القلة. وتُبلغ هذه الأنسنة، إذا لم تعصَ العبارة فهم القارىء، من طريق "تعميم منجزات الحضارة المعاصرة إياها في العلم والحرية والتنمية المستقلة"، أي من طريق انتشار المنجزات هذه، وهي إلى اليوم خاص "الحضارة المعاصرة" و"الغربية"، في المجتمعات العربية. ويعود هذا إلى رأي سلامة موسى وأمثاله من أهل زمانه "الأول"، ومنهم طه حسين صاحب "مستقبل الثقافة في مصر". فالأنسنة لا ترتب على مدعيها وأصحابها، "مفكرين وباحثين..."، وعوام أهل المجتمعات الناهضة إلى الأنسنة، زيادة أو اضافة أو تغييراً. فيكفي أصحاب الأنسنة النقلُ عن "الحضارة المعاصرة" علمَها وحريتها وتنميتها المستقلة ومواثيقها في حقوق الأنسان، وغايتها في "مجتمع الدول" أو "السلم الدهري"، وإرساءها السيادة السياسية على "مبادىء الحق والقانون والمواطنة"، وتقييدَها قوة الدولة "الحديثة" ب"مجتمع مدني" منيع، والإندماجُ فيها من غير اشتراط الخصوصية وأعذارها وأسبابها التخفيفية - يكفي النقل والإندماج حتى تتقدم الأنسنة خطوات، بعدد المجتمعات العربية، على طريق محجتها وطلبتها. فلماذا يموِّه أصحاب البيان "الأول"، بعد ألف ألفٍ من أشباهه، مذهبهم؟ فهم لا يذهبون، بشهادة ما يكتبون ولو غامضاً ومبهماً، مذهباً غير مذهب أسلافهم المغرِّبين والقاصرين أنفسهم وفعلهم على النقل والنشر والإذاعة، وغير المشترطين شروط الخصوصية. ولكنهم يجهرون مزاعم فوق مزاعم هؤلاء الأسلاف بكثير، ويطلبون لأنفسهم ولأمثالهم ريع هذه المزاعم وعائدها. فمن يقدر على "صوغ مشروع نهضوي..."، أو تطيعه يمينه على "أنسنة الحضارة المعاصرة"، ودعك من "تحرير طاقات الشعوب العربية" و"بلورة عولمة مضادة"، من هذا شأنه "الأول" على ما يزعم، فلا أقل من رفعه على الأكف إلى أعلى المقامات وأسماها، ولا أرخص من مبايعته "على ما في نفسه"، على ما قيل في بيعة الرضوان، مثال كل بيعة، وعلى الطلاق والعتاق المعنويين. أما من يقصر مطمحه وطلبه على نشر طرائق في العمل والعلم والاجتماع والسياسة، ويزعم لهذه الطرائق العمومية والقوة من نفسها، وليس منه ومن أمثاله وأصحابه، فهذا يصرف جهده ووكده إلى نقد ما يعوق نشر الطرائق التي يدعو إلى استقبالها وإحسان وفادتها. ولا شك في أن أصحابنا، أصحاب "اللقاء" و"البيان"، هم، من وجه، من دعاة استقبال "الحضارة المعاصرة"، وعملها وعلمها واجتماعها وسياستها، بالحفاوة. فهم يعوِّلون على هذا الاستقبال، ويتوقعون منه القوة والمنعة لهم ول"أهلهم" و"عالمهم" العربي. لكنهم، من وجه آخر، أسرى سياسة مجتمعاتهم ودولهم، ويرسفون في قيود ثقافتها السياسية وسلاسلها، على رغم نعتها ب"الاستبداد"، وحمل "التبعية واستشراء الفقر... وانتشار الأمية"، و"المواطنة المنقوصة" و"أشكال التمييز"، عليها على ثقافة المجتمعات والدول السياسية. فيحسبون أن دورهم المفترض، وهم يفترضونه لأنفسهم، لا يستقيم إلا بتعظيمه وتعظيم أنفسهم. فيتركون نقد ما يعوق استقبال "الحضارة المعاصرة"، ويترفعون عن تسميته، ويختصرون وصفهم أحوال مجتمعاتهم ودولهم وأنفسهم إلى كلمات عامة استبداد، فقر، أمية، تبعية...، تخطىء مسمياتها ومدلولاتها. فيسع رعاة الاستبداد والفقر والأمية والتبعية استعمالها في التنديد بخصومهم وأعدائهم ومعارضيهم من غير عسر ولا جهد. فلا يعجب أصحاب "البيان" و"اللقاء"، على شاكلة أمثال لهم لا يحصون، من لقائهم ببيروت التاعسة، وإذاعتهم ما يذيعون منها. فلا يجودون على مضيفتهم بكلمة واحدة تصف حالها ودمارها وضعضعتها، ولا ينكرون على أحد تبعته عن الحال هذه ودوامها. وهم لا يجهلون أن مثل كلامهم إذ يقال بعض قليل منه في من يسكتون عنهم، وتسكت بياناتهم عن الإلماح اليهم من طرف خفي، يرمي بقائله في عتمة مغفلة المكان والزمان وها أنا أكني بدوري...، ورمى بقائليه في مثل هذه العتمة. ولا يعدو أصحاب "البيان"، على شاكلة أصحاب لهم لا يحصون، مسايرة أهل القوة، وهم أهل الاستبداد والتبعية والأمية والفقر، ومتابعتهم على مذاهبهم ومزاعمهم الخصوصية والقومية، حين يتحفظون عن "العولمة"، ويدعون إلى "جبهة متضررين من آثارها السلبية"، على مثال الجبهات المعادية للإمبريالية السالفة، وهم كانوا جزءاً منها. وليس معنى نعي التحفظ أن "العولمة"، أو ما يسمونه هذا الإسم، خالية من "الآثار السلبية". لكن حملَ هذه الآثار على جرح "القيم الأخلاقية والروحية والثقافية"، وعلى تقديم "قيم السوق والاستهلاك"، ومعارضةَ هذه بتلك على نحو معارضة الشر بالخير والظلمة بالنور، يجريان الحمل والمعارضة مجرى التبديع والتجهيل المعروفين والسائرين. ويماشي الحكمان انكفاءَ الدول والمجتمعات على خصوصيتها، وطلبَها اعتزال "الحضارة المعاصرة" وهيئاتها، مثل "المجتمع المدني" العتيد و"مبادىء الحق والقانون"، ويقويان تمسكها بمقومات أحوالها. والحق أن "الجبهات المعادية" و"الجبهات المناهضة"، والجامعة "كل المتضررين"، أدت فيما مضى إلى جمع أشد المحافظين وأعيان الأنظمة "البائدة" إلى "طليعة" الأنظمة أو النظام الأوحد، "العلمي" الآتية، وقابلتها القانونية ووالدتها الشرعية. ويتضرر اليوم، من العولمة المالية أعيان "الإقطاعات" التايلندية والكورية الشاوبول والأندونيسية، وعلى رأس هذه عائلة سوهارتو، شأن تضرر أهل الطبقات الوسطى وضعفائها التايلنديين وغيرهم. ويتذرع "كبار" المتضررين بالضرر الواقع على الصغار والضعفاء، ويعود قسط كبير من الضرر هذا إلى سوء تدبير "الكبار" أيام سطوتهم وشرههم وتبديدهم، يتذرعون بهذا إلى توحيد "كل" قومهم وعصبيتهم في عداء واحد ومناهضة مجتمعة. ويرتدي توحيد الكل تارة زي "الآسيوية"، والدعوة اليها عن يد السيد مهاتير محمد الماليزي، وتارة أخرى زي "الجماعة" المصرية أو "الجماعة" الجزائرية "المسلحتين". فإذا كان أصحاب "البيان" من "شكل" آخر، على قول سليمان بن صُرَد الخزاعي والتواب، غير "شكل" هؤلاء، فلتكن البيِّنة على زعمهم مقالات أقل اختلاطاً من هذا اللغو المكرر الذي لا جناح على صدوره من بيروت، ولا يستحي المنتدون من قوله إلى آبائهم وقادتهم وعظمائهم. * كاتب لبناني