الأجساد التي يكتبها أحمد بزون هي أجساد الذاكرة، أجساد الحرب والسلم، الخيبة والأمل، أجساد الأمكنة المتناقضة بجغرافيتها ونمط حركتها. انها أجساد خرافية وواقعية، أجساد العقلانية والغريزة. انها قبل كل شيء أجساد مشعوذة، تنتهك الحدود المرسومة بين المعقول وعكسه، تقلب المفاهيم رأساً على عقب وتحفر في المشاعر الدفينة حتى تفجيرها. تناول الكاتب محاور فكرية عدّة بنى عليها روايته المتميزة من حيث الاتقان في صوغ الحبكة، ومع تطور الكتاب راحت تتطور الأفكار التي كانت مطروحة في البداية كرموز قابلة للتفجير حتى نضجت من تلقاء ذاتها بدون تدخل الكاتب وبدون تحريضه على ذلك. وقد نقول ان النقاط الأبرز التي دارت حولها الرواية هي السياسة والعلاقات العاطفية والعلاقة الفردية بالمدينة. من هذه العناوين الرئيسة تفرعت مواضيع ثانوية، لكنها لا تقل أهمية عن الأخريات التي طرحها الكاتب بشكل مكثف وموسع، وأذكر على سبيل المثال ذلك التركيز المخفف أو العابر على السحر والجن وكل ما يتصل بهما وكل من يتعاطاهما، وكأنما ثمة رغبة معلنة لدى انسان القرن العشرين - الحادي والعشرين في العودة الى طقوس تعيده الى أزمنة النقاء، وأعني بها أزمنة الحرية حيث كان الجسد روحياً أكثر منه مادياً، وحيث كان التقرب منه تقرباً جليلاً أكثر منه مبتذلاً أي فارغاً من عمقه ومن قدسيته الأصيلة، البدائية. وعبّر بزون عن هذه الناحية أفضل تعبير في الفقرة الأخيرة من الرواية لما جعل المرأة ورد تطير طيراناً ممتعاً في عالم ساحر" فأرسل لها الملك ليلاً، وقد يكون ملك الجن، لتشعر معه أجمل الأحاسيس الجسدية، بل لتحرر جسدها من الكبت المزمن، بل أيضاً لتفتح أمام قدرات جسدها عالماً شاسعاً من النشوة، أمكنة لا نهائية للحلم حيث الأزمنة تمتزج ببعضها البعض لكي تندثر وراء أجساد الحاضر والماضي والغد العقلنة المسطحة. وعودة الى المواضيع الرئيسية، نلاحظ ان بزون استدرك الأمر مبكراً اذ معتقدات سليم السابقة التي كات عموده الفقري وخبزه اليومي، بدأت تتلاشى منذ بدايات الكتاب لمّا كان يتغزل بورد في بيت أهله. فمن ناحية، كان هذا الغزل نافذة يتنفس من خلالها في جوّ الاحتلال الخانق، ومن ناحية أخرى كان السبيل الوحيد والطبيعي للعودة بالإنسان الى إنسانيته، الى انتمائه الفطري الى جسده، أي الى عقله الحر، الرحب، اللين. واذا كانت العقيدة السياسية - الحزبية، ولفترة طويلة، هندست حياته اليومية وربطتها بفكره الواحد والصارم، فعقله وجسده بقيا الى حدٍ ما فالتين من قبضة المادية المحدودة الأفق، وكأنهما عملا بصمت وتؤدة، أو بحكمة لا واعية فحسب، حتى تمكنا من سليم مجدداً وقد يكون بدأ هذا التحول المهم في بستان الزيتون، ففي تلك الليلة اختلط الأمر عليه وتداخل الواقع والحلم وامتزج جسد ورد بجسد الجنية أو "الأميرة الحمراء" وكان هذا نقطة انفجار للمعاني الراسخة والبالية والكشف عن نواة بلورها بزون شيئاً فشيئاً على مدى الكتابة. السياسة إذن، كما نراها من خلال أفكار سليم، مادة قابلة للاضمحلال عندما لا تبدي الليونة المفترضة في الوقت المناسب. وهذه الليونة التي اعتمدها سليم ضربت جذورها في عمق المسألة الإيديولوجية من خلال النقد الذاتي والإيجابي أي من خلال نقد الحزب، كل الأحزاب وتركيبتها. أما العلاقات العاطفية التي أخذت أيضاً حيزاً كبيراً في الرواية، أو لنقل الحيز الأكبر، فقد تراوحت بين الحب العميق والصافي عند فئة وحب التسلية عند فئة أخرى. إلا أن عاملاً أساسياً يجمع بين هذا وذاك، وهو العبث المسيطر على هذه العلاقات، وهنا يحاول بزون قدر الامكان الكشف عن أوجه المجتمع اللبناني المتعددة والتي عاشها بصورة أو بأخرى كل من سليم وورد، وكانت نقطة التحول الجغرافي لكليهما انتقالهما من القرية النائية والتقليدية الى المدينة الحديثة و"المعقدة النسيج" التي هي بيروت، وكان لبزون ان ركّز على العلاقة الثنائية، علاقة المدينة - الجسد، وأدخلنا في منعرجاتها وأبعادها وفلسفتها بموضوعية كبيرة ووعي نقدي حاد. نهاية، يمكن القول ان اعتماد أحمد بزون لغة السرد الجواني، حيث كل شخص في الكتاب يروي تجربته وحياته دون تدخل الراوي وبتقطيع يلائم العصر مثلاً "سليم 1" "سليم 2" "ورد 4" "خليل 3" بمثابة عناوين للفصول أضفى على أسلوبه نكهة مميزة في تناول الكلام. * أحمد بزّون - جسد بلا غد - عن الانتشار العربي.