ليس من الحكمة أن تبتلعنا صعوبات اللحظة، فعلى رغم أن جهد التنويع الإقتصادي لم يكتمل بعد، إلا أن حقق الإقتصاد السعودي حقق خطوات في اتجاه الخروج من شرنقة النفط، إذ تظهر مؤشرات أن الإقتصاد السعودي ليس رهينة بكامله لتذبذبات النفط كما كان الأمر في بداية الثمانينات مثلاً. ولعل من المفيد بيان أن الإقتصاد السعودي قد تمكن من مضاعفة القيمة المضافة للصناعة التحويلية بين منتصف الثمانينات والتسعينات، وانه يولد حالياً أعلى قيمة للصناعات التحويلية عربياً، وكذلك في قطاع التشييد، ولا تقتصر الأهمية النسبية للإقتصاد السعودي عربياً على الصناعة والبناء والزراعة، بل حتى في مجال الخدمات الإجتماعية، حيث تنفق السعودية 25 سنتاً من كل دولار تنفقه الدول العربية مجتمعة على الخدمات الإجتماعية على رغم أن سكان السعودية يمثلون أقل من 8 في المئة من سكان الدول العربية. يضاف إلى ذلك أن القطاع الخاص حقق نمواً إسمياً مقداره 4.5 في المئة عام 1997، و3.5 في المئة في عام 1996، وبلغت مساهمته في اجمالي الناتج المحلي 46.7 في المئة بالأسعار الثابتة. وفي ما يتعلق بالنمو، مرَّ الاقتصاد السعودي منذ بداية برنامج التنمية عام 1970، بإنفراجات وتقلصات إقتصادية متواترة، كان بعضها غاية في التطرف. فمن حقبة "الطفرة" الإقتصادية الناجمة عن تصحيح أسعار النفط شملت السبعينات، الى تقلص اقتصادي نتيجة لكساد بدأ عام 1982، عندما انكمش الإقتصاد السعودي نحو 9 في المئة، وتواصل الإنكماش حتى النصف الثاني من الثمانينات عندما شهد الإقتصاد نمواً هامشياً، لكنه سجل نمواً قدر بنحو 15 في المئة عام 1990. وتواصل النمو باستثناء عام 1993 عندما إنكمش هامشياً بنحو ستة أعشار من الواحد في المئة، لتشهد بداية النصف الثاني من التسعينات تحسناً اتضح عام 1997 نجم جزئياً عن تحسن أسعار البترول، حيث بلغت قيمة اجمالي الناتج المحلي 547 بليون ريال من 511 بليون عام 1996 بالأسعار الجارية الدولار يساوي 3.75 ريال. ثم أصيب الإقتصاد العالمي بنكبة نتيجة انهيار الإقتصادات الآسيوية في صيف ذلك العام. لكن مجرد تتبع النمو الإقتصادي لا يكشف العجز الخارجي والداخلي، فقد عانت السعودية من عجز في الحساب الجاري لمدة 13 سنة متواصلة منذ عام 1983 وحتى 1996، عندما حققت فائضاً مقداره 681 مليون دولار، تقلص الى أقل من 300 مليوناً في 1997. العجز في الموازنة في ما يتعلق بالموازنة العامة للدولة، ما زال العجز متواصلاً منذ النصف الأول للثمانينات من دون إنقطاع. وتعتمد الحكومة حالياً تمويل العجز في الموازنة بالإقتراض من البنوك التجارية عبر سندات خزينة، فمثلاً بلغ العجز عام 1984 نحو 11.6 بليون دولار، أي نحو 18 في المئة، وارتفع الى ما يزيد عن 20 بليون دولار في الأعوام 1985 وحتى 1987، ثم تراجع الى 3،14 بليون دولار عام 1988، وإلى نحو 6.6 بليون دولار لكل من العامين 1989 و 1990. وعاود العجز في الموازنة الارتفاع في 1991 الى نحو 14.6 بليون دولار، وتذبذب حتى وصل في 1996 الى 1،5 بليون دولار، وكان تقلصاً تاريخياً في العجز، تبعه تقلص كبير إلى 6،1بليون دولار في 1997. وهكذا، نجد أن عجز الموازنة في 1997 لن يتجاوز أرقاماً قياسية سجلت منتصف الثمانينات. اقتصاد حكومة ما دور القطاع الحكومي في الإقتصاد السعودي إجمالاً؟ في هذا المجال لن تجد من يجادل في أهمية القطاع الحكومي لتواصل التنمية، خصوصاً أن مسؤولية الإنفاق على التنمية بقيت حكومية في الأساس. لكن وجاهة السؤال تنبع من أن الأهمية النسبية للقطاع الحكومي في زيادة، فقد كان نصيب القطاع الحكومي من اجمالي الناتج المحلي بالأسعار الثابتة في 1970 نحو 11.5 في المئة، وارتفع بعد إنقضاء خمس خطط تنموية الى نحو 17.5 بالمئة مع نهاية عام 1996. ولعل من المفيد ملاحظة أن مساهمة القطاع الخاص شهدت تطوراً بوتائر أعلى، حيث إرتفعت من نحو 29 في المئة عام 1970 إلى أكثر من 47 في المئة في 1996 بالأسعار الثابتة. والترابط بين نمو القطاعين الخاص والحكومي في السعودية واضح، لذا فقد يكون مبرر القول أن نمو القطاع الحكومي كان مماشياً خلال خطط التنمية لنمو القطاع الخاص، لكن ليس من الواضح قوة ترابط هذين القطاعين، خصوصاً القطاع الخاص من جهة بقطاع الزيت، فمثلاً هبطت مساهمة الزيت الى نحو 14 بليونا بالأسعار الجارية في 1982، لكن مساهمة القطاع الخاص حققت في ذلك العام نمواً حقيقياً قارب 10 في المئة، وتواصل النمو في العام الذي يليه والذي يليه على رغم أن قطاع النفط شهد لسنوات انكماشاً واضحاً، فبين العامين 1981 و 1989 تراجعت مساهمة النفط بالأسعار الثابتة من 22.4 بليون دولار الى نحو 13.6 بليون، في حين أن مساهمة القطاع الخاص خلال الفترة نفسها زادت بأكثر من الربع من 21.3 بليون ريال الى 3،27 بليون ريال. هل يمكننا بعد هذا القول أن اقتصاد السعودية نفط فقط؟ هناك من الإقتصاديين من يقول أن رائحة النفط تفوح من كل الأنشطة الإقتصادية السعودية حصراً دونما استثناء، فإن ركدت سوق النفط ركد الإقتصاد السعودي والعكس بالعكس، وهذه إشارة لمحورية القطاع الحكومي، وبالتالي النفط. لكنها إشارة تحمل قدراً كبيراً من التجني أو عدم الإلمام، وبالقطع ليس بالإمكان إزدراء أهمية النفط للإقتصاد السعودي، فإيرادات النفط ساهمت في تحقيق الجزء المهم من تطلعات الحكومة لتوفير البنية الأساسية، وساهمت تلك الإيرادات في دعم سبل الحياة فوق البنية التحتية تلك. والأمر لم يقتصر على الطرق والصحة والتعليم والإسكان، بل وظف جزء من فوائض إيرادات النفط في تنمية القطاعات الإنتاجية، التي عادة يكون الإستثمار متروك فيها للقطاع الخاص مثل الزراعة والصناعة. لكن تشجيع الحكومة للقطاع الخاص في بداية خطوات التنمية كان ضرورياً ليس لضخ الأموال العامة بل لجذب الأموال الخاصة لأنشطة عدة بهدف حث الطلب الخاص. ولتلبية هذا الطلب محلياً، يمكن الجدل لدى النظر للصناعة التحويلية على سبيل المثال، أن صندوق التنمية الصناعي السعودي، وهو صندوق حكومي، بإقراضه ما مجمله 21.5 بليون ريال حتى نهاية عام 1996، ساهم برفع الإستثمارات في هذا القطاع من 10 بلايين الى 206 بليون ريال خلال عشرين عاماً تقريباً. وهكذا، فقد جذب الصندرق نحو 20 ريالاً من الإستثمارات مقابل كل ريال اقرضه. ويمتلك الإقتصاد السعودي قطاعاً خاصاً نشطاً، تقدر مساهمته بنحو نصف قيمة قيمة اجمالي الناتج المحلي بالأسعار الثابتة. وبذلك يوفر المساهمة الأعلى بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وفي حين نما الإقتصاد السعودي في المتوسط نحو 1.7 في المئة سنوياً خلال الفترة العصيبة 1990 - 1996، وكان على وشك الخروج من تداعيات حرب تحرير الكويت، لكن تراجع سوق النفط تراجعاً ملفتاً منذ أواخر عام 1997، أدى الى تباطؤ واضح في النمو اجمالاً خلال 1998. ويشار إلى أن الإقتصاد السعودي تضاعف نحو 4.5 مرة بالأسعار الثابتة منذ بداية برنامج التنمية عام 1970. ويذكر أن متوسط دخل الفرد بالأسعار الثابتة قدر بنحو 17.446 ألف ريال في 1969، في حين بلغ 23.567 ألفاً بالأسعار الثابتة أيضاً في 1996. ولعل من الضروري بيان أن عدد سكان السعودية قد ارتفع ثلاثة أضعاف تقريباِ خلال الفترة نفسها من نحو 6.03 مليون نسمة في 1969 الى 84،18 مليوناً في نهاية 1996، ويتجاوز عدد سكان السعودية حالياً العشرين مليوناً، وتقدر الزيادة السنوية في السكان إجمالاً بنحو 3 في المئة، ومن المتوقع أن تستمر لما بعد سنة 2000. وفيما يتكاثر السعوديون بأكثر من نصف مليون سنوياً، فإن ضعف سوق النفط سلب الخزانة السعودية ما لا يقل عن ربع إيراداتها المتوقعة وسيقفل العام وسعر النفط عند أدنى مستوياته، ليأخذنا ذلك الى أجواء ما قبل الطفرة النفطية، حيث متوسط سعر مزيج برنت للسنة الجارية 13.38 سنت، وهو أقل سعر منذ منتصف السبعينيات. أمام الإقتصاد السعودي تحديات واضحة، على رأسها ليس تمويل عجز الموازنة العامة للدولة، بل التأكد أن التحول الى التخصيص وابتعاد الدولة عن ممارسة أنشطة إنتاجية لن يؤثرا على المستهلك. ويمكن الجدل أن التأثير على المستهلك يكون بأن ترتفع الأسعار أو ينخفض مستوى الخدمة أو يقل المعروض من السلع والخدمات. وهكذا تبرز أمام الإقتصاد السعودي جملة من التحديات أهمها مصلحة المستهلك وتمويل العجز. اقتصاد المستهلك لعل السؤال الذي يطرح نفسه وسط أجواء إعلان الموازنة السعودية لعام 1999، هل أن صعوبات تغطية جانب الإنفاق من الموازنة صعوبات مالية أم إقتصادية؟ من المقبول الجدل أن الصعوبات الرئيسية هي صعوبات اقتصادية، تستدعي اعادة النظر لا في مصادر التمويل بل في فلسفة المالية العامة اجمالاً. فبعد توجه الدولة لتقليص دورها الإقتصادي، ثم بعد ذلك اثبات النفط اثباتاً قاطعاً عدم أهليته ليكون عماد الإنفاق الحكومي مستقبلاً، يكون السؤال: هل نريد للإقتصاد السعودي أن يدخل مرحلة يعتمد في نموه على تكثيف قوة الدفع الذاتي، أي على المستهلك، كما في بقية اقتصادات العالم؟ وإذا كان ذلك مقبولاً، فهل يتبع ذلك أن تخصخص الحكومة ما تملك من مؤسسات إنتاجية؟ أم بيع ما تملك من أسهم؟ أم تخصيص الإدارة والإشراف على مؤسساتها الإقتصادية؟ أم دعوة القطاع الخاص لضخ إستثمارات في مؤسسات اقتصادية حكومية مقابل ملكية جزء منها؟ لعل لب تحدي التخصيص لا يكمن في اتاحة المجال للقطاع الخاص، فهذا أمر حسمته الخطة الخمسية السادسة من حيث المبدأ وتبقى خطوات تنفيذية لتقرير: ماذا تم تخصيصه... وكيف يتم تخصيصه، أما التحدي الإقتصادي الذي سيفرزه التخصيص فسيكون: منح دور القطاع الخاص محل الحكومة تقديم الخدمة أو السلعة؟ يبدو بديهياً أن مصلحة الإقتصاد ملازمة لمصلحة المستهلك، فهو الذي يشتري ومن أجله تقام المرافق والمتاجر وتجلب البضائع وتعرض الخدمات، فأي تغيير في سلوكه ينعكس على السوق مباشرة، لذا لا بد من إمتلاك فهم لهذا العنصر، إدراكاً أن المستهلك هو العماد الأساسي للسوق، أما بقية العناصر فلا تعدو أن تكون مؤثرات ثانوية. وحتى لا يكون الطرح تنظيرياً، لنأخذ حالة محددة: إذا إفترضنا أن دخل المستهلك ثابت فيما ترتفع أسعار السلع التي هو بحاجة لها، نجده يعدل، وفقاً للنظرية الإقتصادية السائدة، من إستهلاكه، ليحقق أعلى فائدة نظير إنفاقه، أي أن إرتفاع سعر سلعة أو خدمة ما يقلل من إقبال المستهلك عليها. لكن المستهلك لا يستكين، وعادة ما يسعى إلى للبحث عن بديل أرخص، وهذا السلوك أشبه ما يكون بنظام دفاعي يستخدمه المستهلك لتفادي تراجع مستواه المعيشي، ذلك أن إرتفاع قيمة سلعة أو سلع مع ثبات الدخل يعني بداهة أن الدخل الحقيقي للمستهلك قد تناقص، لكن هذا السلوك لايجدي نفعاً مع السلع الأساسية التي لايمكن للمستهلك الإستغناء عنها ولا إستبدالها. غير أن إحباط المستهلك بهذه الصورة أمر فيه محاذير عدة. فعندما ينضب "جيب" المستهلك تبور السلع ويضمر القطاع الخاص بالضرورة. فشعور المستهلك بالضائقة يدفعه إلى خفض إنفاقه، ويؤدي ذلك إلى تباطؤ النمو الإقتصادي ثم إلى ركود، لتكثر حالات الإفلاس في القطاع الخاص وتتعثر مؤسساته. إذن المستهلك هو عماد الإقتصاد ويجب أن تدرك هذه الحقيقة البديهية جيداً. * سعودي متخصص في المعلوماتية والانتاج