Easa Saleh Al-Gurg Wells of Memory ينابيع الذاكرة . John Murray, London 1998. 250 Pages. سفير دولة الإمارات العربية المتحدة في لندن عيسى صالح القرق ، ذاع صيته كرجل أعمال ناجح، عصامي النشأة حيث علم نفسه مهارات العمل التجاري وتعلم اللغة وفن التعامل الديبلوماسي، وكمحدث لبق تغلب عليه البساطة والعفوية في آن. ولكن لم يعرف عنه في السابق انه كاتب يستطيع الجمع بين التلقائية العفوية والمعلومة المفيدة المخزونة في الذاكرة والامتاع السردي لمشاهداته في مجتمع صحراوي صمد طويلاً ضد حالتين متشابهتي القساوة: المناخ والادارة الانكليزية. كل من عرف عيسى القرق يدرك كم ان شخصيته قريبة من القلب، وذاكراته حبلى بمعلومات غنية حول فترة مهمة من النهوض في بلاده وفي المنطقة العربية بخيرها وشرها، وهو شاهد على عملية التطور التي شهدتها منطقة الخليج منذ عهد سيطرة الإدارة الانكليزية، وحتى الآن في موقعه كسفير لبلاده لدى بريطانيا. وبتسجيله لبعض هذه الذاكرة على الورق في كتاب صدر بالانكليزية مؤخراً بعنوان "ينابيع الذاكرة"، فاجأ القرق العديد من معاصريه. والتسجيل في الواقع هو سرد سيرة ذاتية مهمة لفتى يافع نشأ في البيئة الصحراوية وانطلق في ظلها ليرافق حركة العمران والتحرر وهو على مقربة من بناة دولة الامارات، وبخاصة إمادرة دبي المزدهرة، في اطار مثير عرض فيه مشاعره المفعمة بأحداث كانت تحيط بالعالم العربي من المحيط الى الخليج. والقارئ لسيرة القرق يرى شريطاً لأحداث سياسية تاريخية من منظور ابن تلك البيئة الواعي بمعاني ما كان يجري من تطورات على امتداد العالم العربي وعلى ضفة الخليج منذ عقد الأربعينات، واثر ذلك على ابناء جيله من عرب الخليج. ويقدم القرق هذه الاحداث الى القارئ بأسلوب المحكي وليس بمنهج الباحث العلمي. فالكتاب يحتوي على شهادات تبدو ضرورية جداً عن أحداث وتطورات مهمة في تاريخ الامارات والوطن العربي على وجه الخصوص، ومنطقة الشرق الأوسط عموماً. فهو كان قريباً من مواقع صنع القرار ومتفاعلا مع تلك الاحداث التي وضعت بذور التحول الكبير في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في مجتمعه المباشر والفتى: دولة الامارات. ويتضمن الكتاب الذي كتب مقدمته السفير البريطاني السابق في عدد من الدول العربية - كان آخرها المملكة العربية السعودية - جيمس كريغ، بالاضافة الى السيرة الذاتية للقرق، التطورات التي عايشها وانخرط شخصياً فيها في سنوات الشباب. تلك التطورات التي يبدو انها تركت في نفسه آثاراً لم تستطع التحولات والتغيرات الكبرى والسريعة في المنطقة والعالم ان تهزها أو تمحو منها شيئاً. فالقرق اليوم لا يزال متعاطفاً مع قناعات تلك المرحلة التي تبدو للبعض في الوقت الراهن أشياء تجاوزها الزمن بفعل تغير الكثير من المعايير والمعطيات والقيم في بلادنا العربية، وفي الساحة الدولية في آن. القرق في سيرته الذاتية ينهل من ينابيع الذاكرة ليطلعنا على الكثير من الحقائق والروايات عند تناوله مرحلة تشييد البنى الاساسية للحياة المعاصرة في الخليج سياسياً واقتصادياً من موقعه المهم، وبخاصة خلال فترة التحول من منطقة تعاني الفقر المدقع، الى منطقة تذخر بالثروة والوفرة المالية الضخمة، لا سيما في امارة دبي - مسقط رأس المؤلف - التي تحولت عبر سنوات قليلة جداً من مكان يرتاده الصيادون، الى أحد أكبر وأهم المراكز التجارية والاقتصادية يرتاده كبار المستثمرين والرأسماليين في العالم. القرق من أبرز الشهود على قصة نجاح باهرة ونادرة ايضاً. لثد وصف القرق ماضياً صعباً مليئاً بالجهل والأوبئة والصعوبات المختلفة، لا سيما في المجال المعيشي الذي "ذهب الى غير رجعة" على حد قول الكاتب. ولكن رغم هذه الظروف القاسية فإن القرق يوضح كيف ان "العلاقات بين الناس في تلك المرحلة كانت محمية ومنتظمة بقيم الاسلام وبالترابط الأسري"، وكأنه يريد ان يجري مقارنة مع أوضاع الزمن المعاصر. وسجل القرق بعناية فائقة نهضة دولة الامارات ولخاصة بعد الانسحاب البريطاني منها عام 1971 واظهر بالتفصيل آليات هذه النهضة. في الوقت ذاته اهتم المؤلف باطلاع قراء "ينابيع الذاكرة" على الظروف المحيطة بالخليج خلال تلك المرحلة عربياً واقليمياً وعالمياً، لا سيما وانه كان ينتمي الى جيل خليجي شاب متحمس انغمس في الهموم العربية في مرحلة شهدت تطورات متلاحقة غيرت كثيراً من ملامح المنطقة ومن نسيج العلاقات الدولية على حد سواء. في الكتاب وصف مهم لمشاعر مجتمع الخليج للانقلاب الشاهنشاهي المدعوم من الولاياتالمتحدة ضد حكومة محمد مصدق الوطنية في ايران عام 1953، و"العدوان الثلاثي" على مصر في 1956. ورغم تغير المرحلة والقيم والمعايير، فإن السفير المحترف ورجل الاعمال الناجح لا يخفي إعجابه الفريد - ببراءة وحماسة واندفاع أبناء جيله - بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر. لقد كان عبدالناصر "رمزاً قومياً واجه الكثير من التحديات على يد خصوم العرب مثل العدوان الثلاثي البريطاني - الفرنسي - الاسرائيلي على مصر وهزيمة حزيران يونيو عام 1967"، على حد تعبير المؤلف. ويقول القرق: "ان المخطط الدولي الاستعماري كان أقوى من المخطط القومي، لأن التوجه القومي العربي تعرض الى العديد من المؤامرات الخارجية". في "ينابيع الذاكرة" يكتب القرق ايضاً عن الأسس السياسية في الخليج العربي وعناصر التغيير على الصعيد الديبلوماسي، كما تحدث في اطار صريح أيضاً عن العلاقة بين الغرب والاسلام، والمشاكل التي يعيشها المواطن العربي في الوقت الراهن. ويروي القرق ظروف نشأة الوعي الأولى لأبناء جيله التي بدأت في البحرين، وبالتحديد في "نادي المحرق" الذي كان يرتاده خلال عقد الأربعينات نشطاء سياسيون ومفكرون من أمثال عبدالعزيز الشملان وعبدالرحمن البكر ومحمود الميريدي "الذين شغلوا لاحقاً مواقع حيوية في عملية التنمية البشرية في الخليج". فالبحرين كانت سباقة بين المجتمعات الخليجية في تنمية الوعي والفكر العربيين جراء "خروج ابنائها الى مراكز الثقافة والفكر في القاهرة وبغداد ودمشق". وفي مكتبة "نادي المحرق" كانت التجربة الأولى لعيسى صالح القرق في الاطلاع على "الكتب التي علمتني التاريخ العربي ومساهمات العرب في التقدم الانساني". وفي البحرين ايضاً "اطلعنا لأول مرة على مجلات الهلال والرسالة واللطائف المصورة... وكانت تبهرنا مقالات فكري أباظة". ويلقي المؤلف بعض الضوء على جانب غير مألوف عنه في شخصية جمال عبدالناصر، بناء على تجربة شخصية عندما رافق الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم مؤسس امارة دبي في زيارة الى مصر عام 1959 في طريق عودتهما الى دبي قادمين من لندن في ختام زيارة تلبية لدعوة من حكومة هارولد ماكميلان المحافظة. وكان اللقاء الاول مع عبدالناصر في الاسكندرية، وتم لقاء ثان في القاهرة جرت فيه المفاوضات الرسمية حيث قام الشيخ راشد بالرد على جميع اسئلة الرئيس المصري بخصوص العلاقة بين حاكم دبي والادارة البريطانية. وقال عبدالناصر للشيخ راشد: "شكراً لك على هذه المعلومات ولكن دعني اقول لك: احتفظ بعلاقات جيدة مع الانكليز، اذ من الممكن ان تستند على اكتافهم الاعتماد عليهم وتستخدمهم لتعليم ابنائكم وتدريب شبابكم على النظام. انا لست ضد الانكليز، لا تصغ لكل ما ما تقوله اذاعة صوت العرب. اننا غير قادرين على محاربتهم لانهم أكثر عدداً وعتاداً ولن نصل الى مستوى قوتهم. نحن مثل الهررة التي تحشر خصومها في الزاوية لتخدش في النهاية وجوههم فقط". وفي تلك المناسبة خاطب الرئيس المصري الراحل عيسى القرق نفسه وقال له: "احتفظ باصدقائك الانكليز، لقد اعطينا اوروبا الجزء الاكبر من ثقافتها عبر البحر المتوسط واسبانيا. نحن تخلفنا ويجب علينا ان نستعيد جزءاً من ثقافتهم ومهارتهم بالمقابل". عيسى صالح القرق يخرج من رومانسيته ويجري مناقشة جادة ومهمة للواقع العربي ويؤكد على "اهمية الحرية الحيوية كشرط للتقدم والتحرر من قيود الماضي". وفي نظرته المستقبلية لمنطقة الخليج والعالم العربي يقول ان التقدم لن يكون ممكناً ما لم يتخلص العرب من هذه القيود. من يعرف السفير القرق شخصياً يشعر اثناء قراءة الكتاب وكأنه يصغي الى حديثه المعتاد في مجلسه. ولكن تبقى ملاحظة لا بد من قولها علماً بانها لا تقلل من شأن الكتاب، وهي انه كلما اقتربت ذاكرة المؤلف من الزمن الراهن، كان تدفق الينابيع يخف قليلاً