غلبت القيم والحزبية على عاطفة حماية الرئاسة الأميركية من المحاكمة. ودخلت الولاياتالمتحدة أمس منعطفاً تاريخياً بتصويت مجلس النواب على عزل بيل كلينتون، ما يعني بدء محاكمته في مجلس النواب مطلع السنة. وقد تؤدي نتيجة المحاكمة إلى طرد كلينتون من البيت الأبيض، أو إلى الاكتفاء بتوبيخه وتغريمه بعد وصم سجله بدعوة مجلس النواب إلى إقالته. ظاهرياً، بدا أن الهيئة التشريعية حاكمت الرئيس على اقترافه اثم الخيانة الزوجية وتلطيخ هيبة المكتب البيضاوي بعلاقة جنسية غريبة مع ابنة العشرينات مونيكا لوينسكي. واقعياً، صبّت التهم التي وجهها مجلس النواب في عصب القيم الأميركية والقوانين الأميركية، وأبرزها أولاً ان لا أحد فوق العدالة والقصاص للجميع. وثانياً، ان الكذب بعد أداء القسم جريمة إذا غضت أميركا النظر عنها تهدد بنيتها الاخلاقية والقانونية. لكن القيم لم تكن وحدها التي وجهت مجلس النواب الأميركي، وإنما أيضاً المعادلات الحزبية الشرسة. وحدث تداخل مدهش أمس اثناء المناقشة بمفاجأة اعلان روبرت ليفينغستون، المرشح الجمهوري لرئاسة مجلس النواب، أنه يعتذر عن ترشيحه وينوي التنحي من منصبه، متمنياً ان تكون استقالته مثالاً يقتدي به بيل كلينتون. المدهش ان ليفينغستون استقال بعدما اعترف يوم الخميس أنه ارتكب خيانة زوجية في ضوء خبر صحافي كشف تاريخه الشخصي. وبذلك تداخلت عناصر الاخلاقية الشخصية والخيانة الزوجية مع الاعتبارات الحزبية في معركة نادرة لامتحان الديموقراطية الأميركية. الحزب الجمهوري الآن بلا قيادة. والحزب الديموقراطي اليوم يقوده رجل دخل التاريخ بالتصويت لمصلحة عزله. على رغم ذلك، تجرأت أميركا على محاكمة قادتها ومحاكمة نفسها في خضم انهيار قنابلها على العراق. وللمرة الأولى تعالت أميركا على الوطنية الاوتوماتيكية الضيقة وتجرأت على اختبار ديموقراطيتها أمام العالم. هذا لا يعني أي انحسار في الوطنية الأميركية بل تعزيزها عبر اخراجها من خانة ضيقة وعدم السماح لاخضاع العملية الديموقراطية رهينة للوطنية. ما سيحدث في مجلس الشيوخ لا يمكن التنبؤ به، بسبب سلسلة المفاجآت التي رافقت قصة كلينتون - لوينسكي، كذلك بسبب العلاقة الواقعية بين ما يحدث داخلياً وما سيجد على العملية العسكرية في العراق وإفرازاتها. حتى الآن تبدو العملية العسكرية غير حاسمة، خصوصاً أن هدفها الحقيقي هو زعزعة الأسس والبنية التحتية العسكرية لنظام الرئيس صدام حسين. القاسم المشترك بين الرئيس العراقي والرئيس الأميركي ان الاثنين يقاومان محاولات العزل والاطاحة. بيل كلينتون لن يستقيل رغم زخم المطالبة الرسمية بعزله، وهو يواجه حرباً مدنية سلاحها الديموقراطية والحزبية. وصدام حسين لن يتنحى رغم القصاص الدموي للعراق، والأولوية عنده هي افشال محاولات لإطاحته سواء كانت بتمنيات داخلية، اقليمية، أميركية أو دولية