المانيا في نهاية هذا القرن تبدو أهم سوق إعلامية في أوروبا. من أصل 38 مليون أسرة، 4،37 مليوناً لديها جهاز تلفزيون. كذلك فإن نسبة الكابيل والصحون اللاقطة هي الأكثر ارتفاعاً بين الدول الأوروبية. فالوحدة الألمانية، على عكس التوقعات، زادت من نسبة المنازل التي انفتحت على تقنيات الاعلام الحديثة. انجذاب الجمهور الألماني لمحطاته التلفزيونية، ولإعلامه بشكل عام، يعود أيضاً إلى حرص المسؤولين على تأمين شروط عمل وقوانين لا تعرقل مهام العمل الصحافي. وعلى عكس عدد كبير من الدول الأوروبية، وفرنسا خصوصاً التي تخلت في الثمانينات عن المحافظة على جودة القطاع العام السمعي - المرئي، فإن المانيا ما زالت حتى اليوم تحد من بث الأفلام الإعلانية على القناتين العامتين ARD, ZDF إلى عشرين دقيقة في اليوم، مع منع تام خلال أيام الأحد والعطل. كذلك فإن إعلانات السجائر أو القمار أو الألعاب التي تشجع على العنف، ممنوعة من البث على الشاشة الصغيرة. محطتا التلفزيون العامتان لا تملكهما الدولة الألمانية، بل حكومات الست عشرة منطقة التي تشكل المانيا. ودفتر الشروط الذي يحدد كمية ونوعية الأفلام الاعلانية على التلفزيون، يسمح بالتالي للصحف بجذب هذه الرساميل التي تتعدى ميزانياتها على المطبوعات مبلغ ثمانية ملايين دولار في السنة! معظم صحف المانيا تعتبر صحف مناطق، وحوالى أربعمئة مطبوعة، اضف إليها تسع صحف من طراز التبلويد "الشعبية"، وسبع صحف ذات توزيع وطني يتخطى حدود المناطق. حوالى ستة وعشرين مليون عدد يُباع يومياً، بيد أن حصة الصحف الوطنية غير التابلويد لا تتخطى 5 في المئة من هذه الكعكة. على سبيل المثال، إذا كانت صحيفة التابلويد "بيلد" توزع يومياً حوالى أربعة ملايين ونصف مليون عدد، فإن "سودثش زيتونغ"، الأولى بين الصحف ذات التوزيع الوطني، لا تصل مبيعاتها إلى نصف مليون عدد. وعلى صعيد الأسبوعيات السياسية، فإن "شتيرن" و"دير شبيغل" يتراوح توزيعهما بين مليون ومليون وربع مليون عدد أسبوعياً. هذه اللمحة السريعة عن وضع الصحافة الألمانية الذي يُحسد عليه أصحابه على غير صعيد، يفاجئ أحياناً في المواضيع التي تعالجها وسائل الاعلام والتي تصبح حدثاً. نقاش المثقفين الذي غدا في معظم الصحف الأوروبية يجد مكانه في صفحات الرأي أو الثقافة، ما يزال يحتل في المانيا زوايا الصفحات الأولى. السنة الفائتة، شنت الصحف حملة على الكاتب الألماني غونتر غراس لأنه قام بحملة ضد سياسة المانيا تجاه الكاتب التركي يشار كمال، بيد أن انتقادات غراس اللاذعة والتي أعادت إلى الذاكرة الماضي النازي، حملت الصحف الألمانية على القول إن كتب غراس هي "شتيمة للوطن" بيلد، أو ان "غراس لا يحب بلده" بيلد، أو أنه انتهى كأديب دي زايت، وعلى محطة ZDF التلفزيونية طُرح السؤال: "أين أضحت موهبة غراس؟" وكانت هذه الهجمة على الكاتب الألماني جزئياً وليدة انتقاداته الساخرة للوحدة الألمانية. هذه السنة، صراع جديد فجرّه الكاتب الألماني مارتن فالسر على صفحات الصحف والمجلات حول ماضي المانيا النازي. ففي مناسبة تلقيه جائزة المكتبات الألمانية، صرّح فالسر بأنه غدا يدير ظهره كلما اثار التلفزيون الألماني موضوع النازية، وان هذا الموضوع بدأ يستخدم لأغراض لا علاقة لها بالمحرقة. وبالطبع اعترضت السفارة الإسرائيلية على هذا التلميح، فيما رد مارتن بوبس مسؤول الجالية اليهودية في المانيا رداً صاعقاً، عبر الصحف، متهماً فالسر بمحاولة طي صفحات الماضي، بينما رفض الشعور بالذنب هو دليل على اتجاه الماني جديد قد يؤدي إلى عواقب وخيمة. هذا النقاش يشغل الصحافة الألمانية منذ شهرين و"فرنكفورتر الغماين زيتونغ" أصبحت المنبر الأول لوجهات الرأي المتضاربة. ولم يخف عدد من الصحف التذكير بأن جيل شرودر، المستشار الألماني الجديد، هو جيل يريد الخلاص من عقد ذنب تجعله كسجين مراقَب، وان سياسة شرودر الخارجية تنوي الخروج من "العواطف" والسير حسب المصلحة القومية. قد تكون مجلة "دي زايت" هي التي قدمت أفضل مساحة في هذا النقاش. فالماضي الألماني في خصوصيته يتطرق بالطبع للماضي وأيضاً للحاضر والمستقبل. لذا فخلال سنوات ما بعد الحرب، غدا من الطبيعي طلب رأي ممثلي الجالية اليهودية في المانيا، ليس فقط في ما يخص المظاهرات اللاسامية، بل أيضاً في أمور تتعلق بالمهاجرين أو العنصرية أو امكانية الأطباء مساعدة مرضاهم على الموت إذا كان لا شفاء لهم. الجديد ان عدداً من هذه التساؤلات لم يعد يجد في محاربة الماضي النازي أجوبته: الهجرات الاقتصادية، التعددية الثقافية، البيوتكنولوجيا وغيرها من عقد آخر هذا القرن لم يعد رفض المحرقة يشكل جواباً تاماً عنها. فجرائم القرن المقبل قد تكون شديدة الاختلاف عن مخيمات الإبادة النازية، غير أن حدة النقاش الصحافي حول الماضي الألماني الذي لا يموت، لا تمنع تطبيق القانون بصرامته وأحياناً بغبائه. فكما أشرنا، هناك مواضيع يُمنع بثها على الشاشة الصغيرة في إطار فيلم اعلاني: السجائر، المخدرات... إلا أن القانون لم يتطرق في ممنوعاته للإعلان السياسي. في مطلع هذا الخريف، اجبرت "العدالة" بث فيلم إعلاني لحزب يميني متطرف، كانت المحطة رفضته. الفيلم يؤكد أن الهجرة المتواصلة تزيد من عدد المجرمين... عيّنة على نقاش ما بعد المحرقة