"كرستالناخت" ليلة البلور في التاريخ الألماني المعاصر هي ليلة التاسع من تشرين الثاني نوفمبر 1938 وفيها انطلق النازيون نحو المتاجر والمؤسسات والمعابد اليهودية فهشموا واجهاتها الزجاجية البلورية وأضرموا فيها النيران. كانت تلك بداية لتصعيد الحملة المعادية للسامية التي انتهت بحرق ملايين اليهود في أفران الغاز بمعسكرات الاعتقال. نقلت معظم القنوات التلفزيونية الكبرى في ألمانيا الاحتفال المهيب الذي اقيم في كنيس برلين الرئيسي بمناسبة الذكرى الستين لليلة البلور. حضر الاحتفال رئيس الجمهورية هيرتزوغ والمستشار الألماني الجديد غيرهارد شرودر وعمدة برلين ديبغين. ورغم ان رئيس الجمهورية وعمدة برلين تحدثا في الحفل، إلا أن معظم التعليقات ركزت على الكلمة التي ألقاها اغناتس بوبيس زعيم الجالية اليهودية في المانيا، وهو أحد الناجين من المحرقة. فقد اختار بوبيس المناسبة ليشن هجوماً لاذعاً على الكاتب مارتن فالزر. وكان مارتن فالزر قد مُنح جائزة السلام في معرض الكتاب في فرانكفورت الشهر الماضي، وأثار الجدل عندما قال إن الإكثار من الاشارات إلى ماضي المانيا النازي "يوظف عارنا لخدمة أغراض معاصرة" وينقل الشعور بالذنب إلى الأجيال الجديدة. اتهم بوبيس مارتن فالزر ب "التخريب الفكري" وحذر من نسيان الويلات التي عانى منها اليهود في المانيا، وأبدى قلقه من وجود اتجاه بين المثقفين الألمان يحاول أن يتهرب من التأمل في دروس الماضي. الحديث عن "ليلة البلور" وما يتصل بها وما أثارته ذكراها لا يهم اليهود والألمان وحدهم. ولا يعيبنا في الدول العربية أن نعترف بأن عوامل كثيرة وموضوعية تضافرت لكي تقلل من استعدادنا للتعاطف مع اليهود عندما يتحدثون عما أصابهم في المحرقة: هجرة اليهود إلى فلسطين ثم تأسيس إسرائيل عام 1948 على أنقاض القرى الفلسطينية التي دمرت، وعلى حساب الشعب الفلسطيني الذي شُرد، ثم توسع الدولة الجديدة والتهامها للضفة الغربية واحتلالها لهضبة الجولان وجنوبلبنان. كل هذه جعلتنا نشعر بأولوية التعبير عما أصاب الفلسطينيين الأقرب إلينا لا ما أصاب اليهود في أوروبا. بل ان لدينا استهانة بذكر المحرقة بدرجة ان شاعراً كبيراً مثل نزار قباني لم يواجه عاصفة من النقد عندما عبر عن اعجابه بالمانيا النازية انقذت ماء وجهنا الاستاذة رنا قباني التي استنكرت ما قاله دون مجاملة أو تردد. نقول في الذكرى الستين لليلة البلور إننا بحاجة ماسة إلى زيادة الوعي في حياتنا العامة بما تعرض له اليهود من اضطهاد وتعذيب وإبادة في أوروبا. الحرب العالمية الثانية جزء من مقررات دراسة التاريخ في مدارسنا وجامعاتنا، ولن نحتاج لأكثر من تعديل قليل في المناهج لكي نزيد من معرفة الأجيال اللاحقة بتاريخ المانيا في الثلاثينات الذي ألقى بظله علينا في فلسطين. أما إنكار ما حدث أو الإصرار على تجاهله فأمر لا يساعدنا على فهم عقلية اليهود عندما يتحدثون عن الأمن ولا على فهم عقلية بعض الأوروبيين عندما يتعاطفون مع إسرائيل على حسابنا. بيد أن الحاجة لاستخلاص الدروس من ذكرى "ليلة البلور" لا تقتصر على الدول العربية أو الإسلامية. فالإسرائيليون والحركة الصهيونية التي تساندهم يفيدهم أن يتذكروا ان المستوطنين العنصريين في الضفة الغربية الذين توفر لهم الدولة العبرية الحماية والتمويل والطرق يتصرفون علناً بأساليب لا فرق بينها وبين أساليب النازيين في المانيا الثلاثينات. ومن المصادفات أن صحيفة "الفرانكفورتر الغماينة" التي أوردت على صدر صفحتها الأولى 10/11/1998 نبأ الاحتفال في كنيس برلين - كما نشرت النص الكامل لكلمة اغناتس بوبيس - أوردت في صفحتها الثانية تقريراً من مراسلها في القدس عن سماح حكومة نتانياهو بتشييد خمس مستوطنات جديدة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وبالشروع في التحايل لتأجيل الانسحاب من الأراضي المحتلة حسب الاتفاق الذي وقع في مزرعة "واي" بالولاياتالمتحدة. أوردت الصحيفة أيضاً في صفحتها التاسعة تقريراً عن "مدرسة كمال ناصر" في خان يونس. كان المبنى حتى عام 1994 مقراً لقيادة الاحتلال الإسرائيلي في جنوبغزة، واستخدم أيضاً كسجن لقادة الانتفاضة. يدير المدرسة الثانوية محمد حمدان الذي سبق أن اعتقل في المبنى. وتتلقى المدرسة إعانة المانية ضمن جهود الاتحاد الأوروبي لمساعدة السلطة الفلسطينية. وليس سراً أن إسرائيل تعمل جاهدة لخنق وتدمير الاقتصاد في مناطق السلطة الفلسطينية، وللحؤول دون إفادة السلطة من مساعدات تمكنها من انشاء بنية تحتية لدولة تملك مقومات الاستقرار والازدهار. لذا فإن المساعدات الألمانية وغيرها تصطدم على الدوام بصخور التعنت الإسرائيلي. أي أن "ليلة البلور" الكرستالناخت تتكرر يومياً بتدبير ومع سبق الإصرار في الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدس. فهل تستطيع الجاليات اليهودية في الشتات وهي التي تؤيد إسرائيل وتدافع عنها وتمولها أن تتنصل من وزر ليالي البلور في الشرق الأوسط؟ زعيم الجالية اليهودية في المانيا - الناجي من المحرقة - يتحدث عن موقف المجني عليه. لكننا ندرك ان العالم تغير منذ عام 1938. فاليهود لديهم الآن إسرائيل وهي أقوى عسكرياً من كل الدول العربية مجتمعة ولديها أسلحة دمار شامل وضمان معلن من الولاياتالمتحدة بأن تحافظ على التفوق النوعي عسكرياً. المجني عليهم الآن والمستضعفون الآن هم العرب. وهم الذين نتمنى أن يتذكرهم أمثال اغناتس بوبيس عند الحديث عن مغزى "كرستالناخت". * كاتب سوداني مقيم في بريطانيا.