ضاق صدر الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو أمس بأنفاسه الحرّة فرحل عن 87 عاماً في جزيرة لنثاروتي «الكنارية» التي اختار العيش فيها بدءاً من العام 1993. هذا الكاتب الذي أعاد الى اللغة البرتغالية حقّها عندما فاز بجائزة نوبل للآداب العام 1998 خانته رئتاه اللتان لم تتمكنا من خفض صوته حتى الأيام الأخيرة. وحين فاز بجائزة نوبل لم يتوان الروائي البرازيلي الكبير خورخي أمادو عن إعلان انتصار اللغة البرتغالية، التي هي لغته أيضاً وإنصاف العدالة لها بعد انتظار أو تجاهل استمر نحو خمسة وتسعين عاماً. ليس خوسيه ساراماغو روائياً كبيراً فحسب، بل هو مناضل كبير أيضاً و «مقاوم لا يخضع للتصنيف» كما سمّي، ونجح كلّ النجاح في المزاوجة بين هاتين الصفتين، دون أن تسيطر واحدة على الأخرى. فالروائي الذي ابتدع عالماً خاصاً به ولغة وأساليب سردية فريدة واختار موضوعاته من ذاكرة بلاده الجماعية ومن الواقع الذي يعيشه العالم، سياسياً واجتماعياً وفكرياً، كان في الوقت نفسه كاتباً ملتزماً، يسارياً ولكن على طريقته، ملتزماً في المعنى الإنساني للالتزام وليس الفكري فحسب. وقد جابه السلطات الظالمة على اختلافها وعارض ورفض، وبلغ تمرّده شأوه عندما أعلن مواجهته ل «التاريخ البائس» كما عبّر مرّة. وعندما أصدر روايته الشهيرة «الانجيل بحسب يسوع المسيح» العام 1992 تلقى سهاماً كثيرة من الكنيسة الكاثوليكية ولم تتوقف دولة الفاتيكان عن الاعتراض على منحه جائزة نوبل. ومثلما انتقد ساراماغو سياسة الاتحاد الأوروبي بجرأة وموضوعية، وجّه نقداً لاذعاً للدولة الإسرائيلية، لا سيما بعد زيارته الشهيرة لمدينة رام الله العام 2002 بدعوة من «البرلمان العالمي للكتاب»، وكان الشاعر محمود درويش أحد منظمي هذه الزيارة، وكتب ساراماغو مقالات أثارت حفيظة إسرائيل، ومما قال حينذاك: «ما يحصل في فلسطين هو جريمة يمكننا أن نقارنها بما جرى في أشوفيتز». وشبه حينذاك محمود درويش بالشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا. وكان ردّ فعل الإسرائيليين مقاطعة كتبه التي تحظى في ترجماتها العبرية برواج كبير. قد تكون رواية ساراماغو الأولى «دليل الرسم والخط» الصادرة العام 1977 وكان في الخامسة والخمسين من عمره، مدخلاً لقراءة شخصيته، فهي تسرد قصة رسام وجوه يتخلّى عن الرسم رغبة في العيش وفي الاستسلام للحياة. لكنه يقرّر أن يصبح كاتباً ولا يحقق هذه الأمنية إلا عبر كتابة سيرته الذاتية. وسيرة هذا الشخص هي سيرة ساراماغو نفسه، فهو نشأ وسط عائلة من المزارعين الذين يعملون بالأجرة وهجر المدرسة باكراً منصرفاً الى المهن الصغيرة مثل صنع الأقفال والحدادة والزراعة، لكنه سرعان ما دخل عالم الكتب كمصحح في إحدى الدور ثم انتقل الى الصحافة والترجمة. لم يعرف ساراماغو الشهرة إلا بدءاً من العام 1980 وكان شارف الستين، وقد جعله تأخره في الكتابة أو تباطؤه فيها، كاتباً ناضجاً وذا خبرة. وفي الوقت نفسه كان ساراماغو مناضلاً ضدّ النظام الدكتاتوري الذي أقامه الحاكم البرتغالي الشهير بالازار وهو سقط في العام 1974. وقد استوحى شخصية الديكتاتور – مثل معظم روائيي أميركا اللاتينية – في روايته البديعة «سنة موت ريكاردو رييس» مستعرضاً تاريخ لشبونة الحديث وآثار الحرب الإسبانية عليها. وكانت الرواية أشبه بتحية الى مواطنه الكاتب الكبير فرناندو بيسوا. وعلى رغم بدئه الكتابة متأخراً فإن أعماله ليست بالقليلة، وقد أكبّ على الكتابة بغزارة بدءاً من عقده الخمسين وكانت كل رواية تصدر له بمثابة الحدث الأدبي في البرتغال والعالم. وقد ترجمت روايات كثيرة له الى العربية، في بيروت والقاهرة ودمشق كما في المغرب العربي. ولطالما تميّز ساراماغو بروحٍ شابة جعلته يعيش في قلب الواقع والعالم، يناصر الضعفاء والفقراء والمهزومين ويواجه سلطات القمع والترهيب. وفي أعوامه الأخيرة افتتح موقعاً شخصياً له على «الانترنت» وراح يدوّن فيه يومياته.