سالم الهنداوي واحد من أشهر ثلاثة كتّاب ليبيين عربياً. أصدر العديد من المجموعات القصصية والروايات ، منها "الجدران" قصص 1978، "الأفواه" قصص 1984، "الطاحونة" رواية 1985، "علاقة صغيرة" مجموعة حكايات 1985، "أصابع في النار" قصص 1986، "خرائط الفحم" و"الزوال" روايتان 1994، "رصيف آخر" مقالات 1994، "الغابة" قصص للصغار 1996 . وصدرت له أخيراً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" مجموعة قصصية جديدة تحت عنوان "ظلال نائية" تضم نتاجاً يربو على الخمسين قصة وضعها الكاتب مابين 1983 و1997 ، ونشر بعضاً منها في الصحافة الأدبية العربية. "الحياة" التقته في نيقوسيا، وكان هذا الحوار: أنت من كتّاب القصة الجديدة التي يقول المنظّرون لها أنها تهدم الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية، لكن هل هذا أمر ممكن بصورة كلّية. وكيف يمكن لنا أن نميّز، بعد ذلك، بين قصة وقصيدة، أم أن ذلك التمييز لم يعد ضرورياً أيضاً؟ - في بيان الحداثة العربية، على الأقل، التي اعتبرها جاءت كإعادة قراءة للموروث الثقافي العربي، وللأشكال الزدبية التي تحددت أجناسها عربياً خلال النصف الأول من هذا القرن نتيجة "الوفدة" الطفيلية التي صاحبت ثقافة الآخر كنتاج "فعلوي" جاء مع تراكم مادة الحرب العالمية الثانية في المنطقة العربية، وما تلاها من حقب استعمارية مؤثرة أنشأت، بدورها، هذه المعرفة من الحوار مع الآخر، بمعنى أن قصف الطائرات لخيام البادية وخيام اللاجئين ترك آثاره على النفس العربية وعلى الثقافة العربية وارتبط ذلك بالآخر، هذا البديع على أساس الحوار با ستخدام لغته الجديدة الوافدة إلى المنطقة مع المنتوجات الصناعية الاستهلاكية كالجبن والبسكويت. وكانت النتيجة أن المصريين تعلموا اللغة الإنكليزية من الاستعمار البريطاني، والليبين تعلموا الإيطالية من الاستعمار الإيطالي، والتوانسة والجزائريين والمغاربة والسوريين واللبنانيين تعلموا الفرنسية من الاستعمار الفرنسي. هذا التعلم "السلعوي" جاء بثقافات تلك الدول إلى المنطقة العربية الت يانطبعت في ذلك الوقت وتجانست مع إيقاعات فنية موسيقية وتشكيلية وأدبية غربية بحيث تغير شكل الحكائي العربي الشفهي الذي كان يتميز به أدب الكدية العربي والذي أنتج ذلك الرصيد الهائل من السرد النثري، ومات الحكواتي على باب المقهى الشعبي ، وظهر جيل عربي من الكتاب امتد من محمود تيمور وحتى يوسف إدريس يكتبون القصة بقواعدها الغربية الجديدة، آنذاك، وكان تشيخوف وموباسان وإدغار ألن بو من ألمع رموزها. وقد جاء هذا التطور الأدبي عربياً، على حساب ذلك التراث الحكائي العربي المفتوح على مخيلة عربية خصبة كتبت نصوصها بعفوية تميّر إبداعا إلى يومنا هذا، إذ أصبحت هي المادة الخام التي يتشكل منها إبداعنا الروائي اليوم، كما يتشكل من عفويتها نصنا النثري في القصة والقصيدة. على رغم أن فنية تشيخوف الشكلية لم تكن تخلو من جماليات النص العربي المتأثر، بطبيعة الحال، بتراثه. أما الجيل الثاني الذي جاء في النصف الثاني من هذا القرن، وكان يوسف إدريس أحد أهم رموزه، فإنه الجيل الذي حمل أخطاء التاريخ وقتل الحكواتي دون قصد، إلى أن ظهر من بينهم من احتفظ بتاريخ الحكواتي فنفض الغبار عنه، وكتب القصة مستلهما الشكل الذي ابدعه الحكواتي، مدخلاص عليى هذا الشكل تطويراً فنياً مبدعاً فتح لنا نحن الجيل الجديد في السبعينات آفاقاً غير محدودة للبحث عن لغتنا الجديدة والخاصة. هو ذا زكريا تامر صاحب الحضور الخاص والمميز في القص العربي الحديث، والذي استمر معنا في مغامرتنا الجمالية التي لن نختلف على تسميتها، والتي هي القصة الجديدة، إلى جانب القصيدة الجديدة التي تستعمل الوسيط النثري لتولد الشعر. إن كتابة زكريا تامر، وكذلك كتابة القاصين والشعراء الجدد تهدم الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية، وعمل كهذا إنما يقع في صلب مهمات الحداثة. أما عن التميز الحالي بين القصة الجديدة و"قصيدة النثر" تحديداً، فهذه مسألة ارتبطت بحالات الكتابة الجديدة التي أفرزت جيلين واعيين بالتعبير، أحدهما رأى القصة عمودية فأسماها قصيدة النثر، والثاني رأى القصيدة سردية فأسماها القصة الجديدة. وهذه الأسماء يمكن أن تنتهي في حدود المسمى "النص" في النثر السردي الأفقي، أو العمودي، إذا أخذنا في تطبيق تلك تلك المفاهيم الجديدة للحداثة، شريطة الاعتقاد، دائماً، بأن هناك "حالة قصصية"، وهناك "حالة شعرية"، وهذا، على الأقل، ما يؤكد طبيعة النص لدى ذائقة المتلقي. وإذا ما اعتبرنا أن النصين، أصلاً، يلتقيان في "اللغة" وهذه مسألة مهمة، في تقديري، وهي التي شكّلت هذا الالتقاء العفوي في التعبير. هناك في العالم العربي اليوم حركة كتابة قصصية مترامية الأطراف، ومع ذلك ثمة من يرى أن فن القصة القصيرة لم يتقدم كثيراً في العالم العربي، بعد زكريا تامر، ما رأيك في هذا؟ - بالفعل، هناك حركة كتابة قصصية واسعة في الوطن العربي، لكن هذه الحركة لم تصاحبها حركة نقدية، كما هو الحال بالنسبة إلى الشعر. فالشعر الحديث صنعت له منابر كثيرة خطيرة، بل تأسست من أجله مليشيات كاكية مسلحة سيطرت على الصحافة العربية حتى اليوم، وإليك بهذه الأمثلة: جماعة أبولو، جماعة مجلة شعر ، جماعة مجلة حوار، وغيرها كثير، ناهيك عن الملاحق الثقافية الأسبوعية واليومية في الصحافة العربية، فهذه يديرها إما الشعراء أو من يناصرهم، حتى لا أقول يواليهم من الصحافيين. ومع ذلك ففي ظني أن القصة آخذة في التقدم على الشعر، هناك طوابير من الشعراء الذين لا يشعرون، مقابل صفوة من كتاب القصة الذين صنعوا كلاماً جديداً ومؤثراً، كلاماً ينحاز له التجديد وتنحاز له الحداثة. على أنني أعتبر النص الإبداعي شكلاً "خلاصياً" إبداعياً ينتمي إلي أبوين شرعيين هما القصة والشعر. أما عن قصة زكريا تامر فإن فنيتها متطورة إلى درجة تتجاوز نتاج جيله بدرجات. إنه كاتب عبقري. ونحن كجيل جمالي جديد في الكتابة الأدبية نلتقي معه شعراء وقاصين. زكريا تامر أحيا فينا الحكوات المقتول على يد جيل الرواد الذين لم يشذ معظمهم عن ارتداء معاطف كلاسيكية لغوغول وتشيخوف وإدغار ألن بو وموباسان، ولم يترك يوسف إدريس، مثلاً، غير بزةرمادية علقها جيل كامل على باب مقهى الحكواتي المقتول. تتحدث عن تداخل العلاقة بين النثر والشعر، وبين القصيدة والقصة، لكن ما هو مفهومك الشخصي لشعرية القص؟ - أظن أن المكونات الفنية والتعبيرية التي تحققت للقصة الجديدة هي نفسها التي تحققت للقصيدة الجديدة. لقد هدمت القصة قلاعها القديمة تماماً كما هدم الشعر قلاعه البالية. والثورتان التعبيريتان جاءتا، نسبياً، في وقت واحد، ومع موجة الحداثة الأولى التي سرعان ما أدركنا خطرها، وأعدنا قراءتها بوعي مختلف بالتراث العربي، فجاءت مفاهيم الحداثة العربية عند بعضنا مسبوقة بهذا الوعي، ونتيجة لحمّى التجريب التي تفاعلت مع كتاب القصة والشعر منذ مطلع السبعينات، وكانت اللغة هي الهاجس الأكبر في تغيير ملامح النص القصصي. وبظهور قصيدة النثر الجديدة كانت القصة في صميم هذه القصيدة، كما أن اختزال اللحظة في القصيدة هو في صميم القصة. وهكذا فإن اللغة والعلاقة الجديدة بها هو منعقد اللقاء، وليس ما يسمى بالشكل، وبالتالي كان اللقاء هو النثر العربي القديم وليس نموذج التجريب الأوروبي. وهذه الخصوصية مهمة جداً، وهي لصالح "النص" العربي مهما اختلفنا في مقدار أهميتها، ومهما اختلفنا وطال الحديث في جينات النص الأدبي العربي الحديث. فعندما تسألني كقاص عن شعرية القص لا بد أن أسألك كشاعر عن قصصية الشعر. على انني أقول اكتب قصتك العمودية، ودعني أكتب قصيدتي الأفقية، ولنلتق هناك في سرد نثري في سماته سمات المكان، وفي طلاقته عفوية الحكي، إنه، بصورة ما، مواصلة لما انقطع إنما بإبداعية جديدة. لقد سبق لأوروبا أن أغرتنا ببريق الشكل، عندما رسمت صورة حداثتها، وعلينا، الآن، أن نبتكر حداثتنا، وأن ندافع عن خيارنا هذا. ثقافياً، نحن نلتقي معاً، شعراء وقاصين جدداً في البحث معاً عن مدافن لغة حية كانت هنا بيننا ثم عندما بدأ القرن العشرين بدأ بهزيمة الثقافة الشفوية العربية وولدت الكتابة بقلم الآخر ومعارفه وجمالياته الأخاذة الخاصة به، على اعتقاد أن هذا سيحقق تطوراً معرفياً بجمالياتنا الغائبة. لقد أخطأنا التصويب! فقد صرنا أشباهاً لهم. وما أن أدركنا أننا هنا، وأنهم هناك، وبيننا فاصل كبير، وعلينا أن نكون أنفسنا، وأن نكون في حياتنا المعاصرة امتداداً طبيعياً لقرون خلت من الحضارات العربية، وليس امتداداً لقرون خلت من الحضارات الأوروبية. لقد كان القرن التاسع عشر عصر القناصل الأوروبيين، وعصر الانفتاح العربي على تدوين التراث والأدب، وعصر استنساخ ما بقي مما أهملناه وضاع مع حضارتنا في الأندلس، وهي الحضارة التي وضعت أسس الأدب الحديث في أوروبا كلها. المضحك المبكي أن أوروبا، هذه، ترجمت لنا ، في ما بعد، مآثرنا لننهل من تبرنا بمائهم. علينا تخريب هذا "المختبر الحداثي" الذي يقول باقتباسنا لأوروبا ، وعلينا أن نؤكد لأنفسنا على الأقل، بمادة التاريخ ما اقتبسته أوروبا منا، من دون استبعاد أن نكون انتقائيين في قراءتنا للمنجز الجمالي لأوروبا ، لا سيما في مستوياته الإنسانية الرفيعة المضادة للتعالي الغربي جينيه، فوكو، بيكت، بريخت، وغيرهم. إلام ترد غياب النص النقدي النزيه والمؤثر والراقي، مقابل نشاط إبداعي عربي جمّ؟ - هناك أسباب كثيرة، أهما في نظري هي صدمة الناقد التقليدي بهذا الإبداع الجديد، وتوقف القلب عنده بظهور قراءات جديدة ومثيرة لهذا الإبداع على أيدي بعض أفضل مبدعيه ممن احترفوا الكتابة في الصحافة، هؤلاء أنا أعتبرهم رسل الجديد ولهم عندي تقدير خاص، فبدلاً من أن ينصرفوا إلى إشباع نرجسيتهم الضرورية كمبدعين راحوا يقدمون ما يعتبرونه مهما من إبداع أدبي جديد. أما النقاد المحترفون الذين تنتظرهم الثقافة العربية وينتظرهم القاريء العربي فعليهم السلام فهم يغطون في نوم عميق، أو هم منصرفون إلى نرجسية غريبة إن كانت تدل على شيء فعلى غيرة من الإبداع المبدعين، إنهم لا يكفون عن تأكيد المقولة القديمة القائلة بأن الناقد هو مبدع فاشل