قد تكون جائزة «ملتقى القاهرة الأول للقصة العربية» التي فاز بها أمس القاص السوري زكريا تامر، أهم تكريم يحظى به هو الذي يقارب الثامنة والسبعين من العمر. فاز تامر سابقاً بجوائز عدة، لكنّ هذه الجائزة كرّست ريادته للقصة العربية الجديدة في مرحلة ما بعد يوسف ادريس. وبدا إعلانها في القاهرة خلال الملتقى، اعترافاً عربياً بهذه الريادة. وكان النقاد والقاصون العرب الذين شاركوا في الملتقى قدموا صورة شاملة للقصة العربية الجديدة بأسئلتها وأزماتها والتحولات التي طرأت عليها. كان منتظراً فوز زكريا تامر بالجائزة، وقد حاز كل أصوات لجنة التحكيم التي ترأسها الناقد جابر عصفور. فهذا القاص الرائد أمضى حياته يكتب القصة، منصرفاً عن أي نوع أدبي آخر. كانت القصة الميدان الوحيد الذي خاضه بجرأة وبراعة. وقد أبدع عالماً قصصياً لم يكن مألوفاً سابقاً، واعتمد لغة مغرقة في كثافتها وشعريتها، واختلق شخصيات غاية في الطرافة والألفة، وإن كانت تنتمي في أحيان الى فئة «الجزارين». وجمع تامر بين الواقع القاسي الذي كان إحدى ضحاياه منذ فتوّته والمخيلة الرحبة القادرة على إضفاء طابع سحري على الأشخاص والأحداث. دخل زكريا تامر عالم الكتابة من باب حرفة الحدادة التي زاولها اعواماً بدءاً من الثالثة عشرة من عمره، بعدما اضطر الى ترك المدرسة، على غرار كثيرين من اطفال حارته الدمشقية الفقيرة. وعندما انتقل الى «مهنة» الكتابة لم يتخل عن المطرقة التي كان يهوي بها على الحديد «بل بقي حداداً شرساً ولكن في وطن من الفخار»، كما قال فيه مرةً صديقه محمد الماغوط. وسرعان ما حلّق هذا الكاتب الشاب في حقل الكتابة عبر قصصه ومقالاته الساخرة، وراح يعمل في مجلات حتى عُيّن في منصب رئاسة تحرير مجلة «الموقف الأدبي» الشهيرة الصادرة عن وزارة الثقافة السورية. وعندما أصدر مجموعته القصصية الأولى «صهيل الجواد الأبيض» العام 1960 حاز اهتمام النقاد والكتّاب والقراء، فهو منذ هذه القصص الأولى استطاع ان يجد لنفسه موقعاً في الحركة القصصية العربية التي كان من روادها يوسف ادريس ونجيب محفوظ وتوفيق يوسف عواد ويوسف الشاروني وسواهم. وبدا صاحب صوت فريد، ببساطته وعمقه، برمزيته وشفافية لغته التي لم تكن غريبة عن مناخ القصيدة الحديثة. وكان تامر من قاصين قلة استقبلتهم مجلة «شعر» وفتحت لهم أبوابها، بعدما وجدت فيه ملامح قاص حديث شرّع آفاقاً جديدة لهذا الفن الصعب الذي يملك معاييره الخاصة. ويمكن القول ان زكريا تامر احدث ثورة في فن القصة، متخطياً المدرسة الواقعية التي أسرتها طوال أعوام، جاعلاً من القصة حافزاً على التجريب القصصي، في اللغة والأسلوب والقص أو السرد. ونجح تماماً في كتابة قصص تنطلق من بيئته الأولى وهي الحارة الدمشقية التي لم يتخلّ عنها البتة. فشخصياته وحكاياته وطرائفه الحزينة في أحيان، كلها مقطوفة من تلك الحارة، ولم يكن له إلا ان يضفي عليها لمسته الساحرة حتى تخرج من أسر المحلّية فتخاطب القراء حيثما كانوا. أجاد زكريا تامر لعبة التخييل والسخرية المرّة والهزء الناجم عن جرح بليغ لم يشف منه. ولا غرابة ان يقترب الواقع لديه من الحكاية أو الأسطورة الصغيرة، فتصبح القصة مسرحاً من الأخيلة والظلال والوجوه. في قصة عنوانها «الصفقة» يجري حوار بين الأم والجنين الذي في بطنها والذي يرفض الخروج قبل ان يعرف أي حياة تنتظره. وفي قصة «رجال الشرطة» يصبح «البطل» مشجباً ثم غراباً ثم سكيناً ثم حائطاً، اما زوجته فتمسي أريكة ثم شجرة... وفي القصة الشهيرة «النمور في اليوم العاشر» يصبح النمر مواطناً والقفص مدينة... تحفل قصص زكريا تامر بالطرافة والفانتازيا والسخرية، لكنها لا تخفي رؤيتها السوداء الى العالم ويأسها منه. فالشخصيات هي دوماً في موقع الضحايا، انها ضحايا بؤسها وقدرها، وضحايا «الجزارين» الذين يخفون وجوههم بالأقنعة. زكريا تامر قاص رائد، بلغته وأسلوبه الذي ينتمي الى «السهل الممتنع»، وبأجوائه المتراوحة بين الوهم والحقيقة، بين أسود الذاكرة وأبيض الحلم. ومع ان مجموعاته القصصية لم تتجاوز العشر، عطفاً على ثلاث مجموعات قصصية للأطفال، فهو استطاع ان يؤسس مدرسة فريدة في القصة العربية القصيرة، متكئاً على خبرته العميقة وعلى حذاقة الحداد الذي كانه يوماً، وعلى ذائقة مرهفة وثقافة عالية في الأدب العالمي.