لم يعر العرب اهتماماً جاداً لمحاولات اليهود الاستيلاء على كل فلسطين أو على جزء منها، خلال السنوات الطوال التي مضت منذ بداية هذا القرن والى حين انتهاء الحرب العالمية الثانية. تلك السنوات التي واصلت الحركة الصهيونية خلالها التخطيط والتنفيذ في شأن زرع مهاجريها في ارض فلسطين وتوطيد وجودهم، كما واصلت نصب الفخاح في مراكز النفوذ السياسي في معظم دول العالم ذات النفوذ. كان الفلسطينيون وحدهم في ذلك الوقت يشهدون، في عجز، تراكم المسألة اليهودية بين ظهرانيهم، من دون ان يكون في إمكانهم أن يفعلوا شيئاً سوى الغضب. وما أن صدر قرار التقسيم الشهير عن الاممالمتحدة واعلنت دولة اليهود حتى اندفع جميع العرب الى داخل الملعب، وبدلاً من ان يساندوا اصحاب الحق راسمين لأنفسهم أهدافاً واضحة، غلبت العواطف الجياشة على قراراتهم فلم يتصرفوا بالواقعية التي كان عليها واقعهم الحزين. حتى بدت الحكومات العربية القائمة آنذاك مرتبكة السياسات ومدفوعة بما يقوله عنها الناس أكثر مما هي مدفوعة بمطالب الصواب. أدى ذلك الواقع الى ثبات أركان دولة اليهود، وفيما كان حكامها منصرفين الى تعزيز وجودها في صمت، استيقظ جنرالات العرب على اجراس الفرصة وشرعوا في الإطاحة بحكوماتهم بدعوى العودة الى تحرير فلسطين. ومضت السنوات ليظهر ان الانقلابيين لم يكونوا ليفكروا في اكثر من البقاء في السلطة، فأهدروا مقومات شعوبهم تحت ستار ان لا صوت يعلو فوق صوت معركة لم تحدث ولم يفكروا في خوضها. وهكذا خنق الزعماء الجدد حريات مواطنيهم وخرّبوا اقتصاد بلادهم وجففوا براعم الديموقراطية التي كانت تحاول الميلاد مقابل وعود خيالية بتحرير فلسطين. ومع انه بقيت للعرب بعض النظم الواقعية العاقلة إلا ان المغامرين تغلبوا على العقلاء فانطلق الجنرالات يرفضون التفاوض ويخوضون الحروب بالخطب والاناشيد حتى مكّنوا لاسرائيل ابتلاع الضفة الغربية وكل القدس وقطاع غزة، بل وحتى مرتفعات الجولان وجنوب لبنان وكل سيناء. وهذه خسائر حال دون حدوثها الملك عبدالله بن الحسين والملك فاروق الموصوفان حتى اليوم بالعمالة للاستعمار. في غمار هذا العجز العربي المكابر أقدم المرحوم السادات على حرب اكتوبر واستثمرها بقراراته السياسية الواقعية. وسواء كانت حرب اكتوبر قد خطط لها من اجل التحرير أو التحريك، فهى ادت في نهاية المطاف الى تحرير كامل للاراضي المصرية. وما كان لأية قوة عربية حتى لو انتصرت ان تسترد اكثر من سيناء. والحق أنه وان امكنت للحاجة بأن السادات لم يكن على طموح، فإنه لا يمكن الا التسليم له بأنه كان على صواب، ذلك انه كان اول من تجرأ على كشف واقع العجز والخروج من خيمة حكام الانقلابات ليتعامل مع القضية وفقاً لما لديه من معطيات. ولما كان اصحاب البطولات الجوفاء لا يريدون غير استمرار الضجيج بعد ان احترفوا صفة الوكالة عن فلسطين، فقد هاجموا الرجل وخوّنوه. ولأن كرامة النظام عندهم فوق مصالح الناس وفوق قيمة ارض الوطن، فقد افسدوا على الفلسطينيين امرهم وشجعوا بعضا منهم على تبني موقف رفض صاخب، وان كان الثمن ديمومة ضياع الارض وتشرد المهاجرين. إنني كنت، ولا ازال، اعتقد ان الرئيس عرفات ومن هم حوله كانوا يدركون حقائق الامور منذ زمن، ولا اشك في انهم لو تركت لهم حرية الحركة وتخلصوا من رهن انظمة عربية لما ترددوا في المضي في ما مضى فيه السادات عندما مزق الرجل حجاب المزايدات. لكن الرياح كانت تجري بما لا يشتهون ولذلك ما ان توفرت امامهم فرصة دولية وعربية ولّدتها الظروف التي اعقبت حرب الخليج الثانية حتى انتهزوها وانجزوا اتفاقات اوسلو. لقد رأى عرفات العرب في مؤتمر مدريد وهم لا يزالون يحترفون لعبة اضاعة الفرصة من دون بدائل، ولا بد انه تخيلهم فريقاً لكرة القدم يدلف افراده الى المباراة بلا احذية وهم يرون في الملعب كرات عدة. سلك عرفات مسلك المرحوم السادات فأنجز اتفاقات اوسلو متحملاً ان يواجه ما واجهته مصر من تهم ومواقف عربية وانا لا استغرب انه وقد سنحت لعقله بعد حرب الخليج الثانية فرصة التفكير بعيداً عن ضجيج الانظمة المغامرة وبعيدا عن تهريج مريديها، لا استغرب انه قد ادرك ان السلام الذي تريده اسرائيل، ليس سلاماً مع جيوش حكومات لا تأمنها وتقدر في المستقبل المنظور على حماية نفسها منها وانما هو سلام التعايش اليومي الآمن الذي لا توفره الا علاقات طبيعية مع الجيران وهنا يكمن السر في اصرار اسرائيل على تقسيط الارض مقابل تقسيط السلام أي ان الامان الذي يبغيه اليهود من وراء السلام لا يتحقق مرة واحدة بل يجب غرسه ورعايته ومنحه الزمن الكافي للتأكد من انه سيستمر. لقد كان السلام الذي عقده عرفات مع اسرائيل سلاماً يتم على مراحل، وقبوله كان مغامرة لا بد من المضي فيها. وقد فعل عرفات خيرا بالانغماس فيه، خصوصاً وانه كان الخيار الوحيد المتاح في بحر عربي من الكلام. ويستغرب المرء إصرار البعض على رفض مراحل اوسلو ومطالبة اليهود بأن يقبلوا مقدماً باتفاق نهائي كامل. فالواحد منها يسمع من منتقدي اوسلوا انهم، وان كانوا يوافقون على سلام مع اسرائيل، إلا انهم يشترطون ان تتعهد بنتيجة نهائية تستجيب لكل مطالبهم وان لم يمانعوا في انجازها على مراحل. وهم بذلك لا يدركون اولاً ان لا قدرة لهم على فرض الشروط الا بالديبلوماسية، وثانيا ان المفاوض لا يستطيع، في مثل حالتهم ان يحصل على تعهد بانجاز النتيجة قبل ان يقبل بالمراحل، لأن المراحل في هذا الفرض لا تعود مجرد مراحل. والحق ان ابرام اوسلو والمضي فيها رغم الصعوبات الحارقة كان ولا يزال عملا صائباً وواقعية لا بديل عنها. وبعد اتفاق "واي بلانتيشن" الأخير لا بد من مساندة عرفات في القدرة على تقديم الاحساس بالأمان لليهود حتى يواصلوا السير في سلام المراحل أو يثبت للجميع انهم يخادعون. وعلى اولئك الذين يضعون العصي في عجلات السلطة الفلسطينية ان لا يتصرفوا وكأنهم لن يستطيعوا العودة الى النضال إن هم توقفوا عما يمارسونه من العنف. فالمناضلون لن ينسوا نضالهم اذا ما توفرت له الظروف من جديد. إن على الكثيرين أن يدركوا ان ليس امام السلطة الفلسطينية في هذه المرحلة الا طمأنة اليهود على امنهم واثبات اننا جادون في ما نقول من سلام حتى لا يبقى امامهم الا ان يثبتوا انهم هم ايضا جادون او يظهر عليهم انهم ليسوا كذلك ونحن لسنا في الحالين من الخاسرين. ان خطة تقسيط الارض مقابل تقسيط السلام أو الامن والتي يشجبها مناهضو اوسلو هي خطة لمصلحة الفلسطينيين اكثر مماهي لمصلحة اليهود. ولعل حكومة نتانياهو قد ادركت هذه الحقيقة. وللمرء ان يسمح لنفسه بأن يعتقد بأن حكومة حزب العمل لو استمرت، أو لو عادت، ستحاول بدورها الهروب من خطة التقسيط. فتلك الخطة هي التي مكنت لعرفات والمناضلين معه أمر العودة والاقامة على جزء من ارضهم، وهي التي مكنتهم من الاتصال بشعبهم والشروع في بناء مؤسسات دولتهم من العدم. والوجود الفلسطيني السياسي صار بؤرة متواصلة الاتساع يعترف بها العالم ويستحيل على اسرائيل الخلاص من وجودها او حتى السيطرة على اتساعها. والسلطة الفلسطينية وان كانت تفاوض اليوم من موقع الضعيف إلا انه تقف على ارض تخصها. ولنتصور ان عرفات ذهب مذهب القائلين بعدم عقد اوسلو واصر على ان يقبل اليهود بحل نهائي للقضية قبل ان يوافق على اية مراحل، لعله كان ومن معه لا يزالون يفاوضون في مدريد وينامون في تونس. لقد انقلبت خطة تقسيط الارض مقابل تقسيط السلام من مصلحة اسرائيل الى مصلحة السلطة الفلسطينية التي عليها ان لا تسارع الى أي حل نهائي في مرحلة واحدة وان تقاوم خطة نتانياهو في دمج بقية المراحل في مفاوضات واحدة. فواقعياً تحقق خطة المراحل للسلطة مزيداً من المكاسب التي تزيد بدورها من تعزيز وجودها فضلاً عن ان لفظ اسرائيل لمزيد من الارض على دفعات أيسر عليها من لفظها دفعة واحدة. نعم، للعرب حق من حيث المبدأ في فلسطين، بل في كل فلسطين، بل وحتى في الاندلس وعلى صاحب الحق السليب العاجز اما ان ينسى حقه حتى يأذن الله أو ان يكون واقعياً فيعمل بالسياسة على تخليص ما يستطيع. ونحن وبعد ان اقتنص لنا فاروق وعبدالله المتهمان بالعمالة للاستعمار كل قطاع غزةوالضفة الغربية ونصف القدس الشريف، قد أوقعنا عصر الانقلابات في أوحال متحركة لدرجة ان صارت مأساة فلسطين أقل وقعاً وإلحاحاً لدى شعوب من العرب بسبب ان ما سلبتها اياه حكومات الانقلابات من حرياتها وما اهدرته من مصالحها يتفوق على ما سلب واهدر اليهود من حريات ومصالح الفلسطينيين. قد تصح النصيحة للسلطة الفلسطينية بالمضي في خطة المراحل والصبر على الحل النهائي فذلك يبدو في صالحها اكثر مما هو في صالح اسرائيل، ونحن إذ نتذكر ما واجهه المرحوم السادات عندما خرج عن خيمة الانقلابيين، وإذ نرى ما يواجهه المناضل الواقعي عرفات لا نملك إلا أن ندعو الله بأن يعين السلطة الفلسطينية على عرب مثلما يعينها على يهود. * كاتب ورئيس وزراء ليبي سابق