منذ احتلال القدس عام 1967 والحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، والزعامات الشعبية والحزبية المتعددة، من اقصى اليمين الى اقصى اليسار تتبنى مقولة "القدس عاصمة أبدية لإسرائيل"، وزاد عليها بنيامين نتانياهو ان "البناء على أي مكان فوقها هو مظهر من مظاهر السيادة". قال ذلك قبل مفاوضات "واي بلانتيشن" وخلالها وبعدها، وعاد من هناك ليعطي الضوء الأخضر لإقامة المستعمرة الجديدة في جبل أبو غنيم، ورد على الاميركيين الناصحين بتأجيل ذلك تنفيذاً لبنود الاتفاق بأن الحكومة الاسرائيلية لن توقف تحت أي ظرف خططها لتنمية مناطق سكن اليهود وتوسيع المستعمرات. في المشهد الداخلي الاسرائيلي تقف حركة "السلام الآن" لتعبّر عن تخوفها من المستقبل، فالتنكر للاتفاق يعني ان الحكومة الاسرائيلية لا تحترم تعهداتها، لا تجاه العرب وحدهم، ولكن أيضاً تجاه الاسرائيليين انفسهم. ووراء حركة "السلام الآن" مجموعة من القوى المعارضة - كل من منطلقه ومن موقفه السياسي - ترى أن الحكومة الحالية تسعى الى شق الجبهة الاسرائيلية الداخلية، ويبالغ بعضهم فيتحدث عن حرب أهلية مقبلة، يرى ارهاصاتها جلية في معسكري المتدينين والعلمانيين، ويعبّر عن ذلك فيقول "شعبان فوق أرض واحدة". وتركز القنوات التلفزيونية الاسرائيلية في معظم حواراتها على انقسام المجتمع الاسرائيلي جبهتين، فهناك العلمانيون والمتدينون، وهناك حوار صاخب حول تحديد: من هو اليهودي؟ وهل الأولوية لأرض اسرائيل ام للانسان اليهودي؟ وحول السلام ومستقبل العلاقة اليهودية - العربية، وأسئلة كثيرة تتردد علناً يساهم فيها الهرم القيادي والجماهيري. ويبقى مقتل رئيس الحكومة الاسرائيلي، السابق اسحق رابين أحد أهم براهين القائلين بوجود حرب أهلية اسرائيلية. ففي ذكراه السنوية تحدث رئيس الجمهورية عزرا وايزمان، وتحدث ايهود باراك، رئيس حزب العمل، وتحدثت ابنة رابين، لكن رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو الحاضر في الصف الأول لم تكن له كلمة، ولعل اسرائيل وحدها تفعل ذلك، لا تمنح رئيس الحكومة كلمة رسمية في احتفال رسمي وطني. حضر نتانياهو كمتهم مضطر ليشهد جلسة علنية تجلد اطروحاته السياسية ويشهد ادانة تحريضه وتسببه المباشر في مقتل رابين، ومن ثم العمل على تنفيذ سياسة لا تغاير سياسات القتيل رابين إلا في الشكل والتوقيت مع تضييع فرص تاريخية لمصلحة الأمن الاسرائيلي كما قالت أرملة رابين في تعليقها على اتفاقات "واي بلانتيشن" - وهو رأي المعارضة من كلا الجانبين، اليمين واليسار. وشعارات المتظاهرين من ذوي الجدائل امام منزل نتانياهو وقبالة مكتبه لا تختلف في شيء عن الشعارات التي واجهوا بها رابين وكانت سبباً في تشجيع قاتله على تنفيذ رغبة المتعطشين لأضحية على مذبح الشعارات التوراتية الصاخبة. وجاءت انتخابات بلدية القدس لتعزز قناعات المتخوفين في الجانب الاسرائيلي، فنتيجتها نموذج واضح لتوجه التيارات السياسية الفاعلة على الساحة الاسرائيلية، ولحضور التيار الاصولي اليهودي متعدد اللافتات لكنه المجتمع على مجموعة من القواعد الثابتة، على رأسها امتلاك القدس الى الأبد، وإنكار اي حق لأي فريق آخر فيها، والدعوة الى ترحيل العرب، واليهود العلمانيين للحفاظ على "أورشليم" يهودية لليهود فقط. فمن أصل 30 مقعداً حصلت ثلاثة احزاب اصولية على 15 مقعداً، ولم يحصل حزب العمل الا على مقعدين. وفاز حزبان علمانيان يساريان بسبعة مقاعد، وتقاسم المقاعد الأربعة الباقية عدد من اللوائح المختلفة. وبهذا اصبح رئيس البلدية الليكودي ايهود اولمرت كرئيس الوزراء الليكودي نتانياهو رهين القوى الاصولية المتشددة، وعليه ان يتجنب معاكستها اذا اراد للأمور ان تصفو له. وتسلّط الاصوليين على القرار البلدي يعني الكثير في هذه المرحلة، للإسرائيليين العلمانيين وللعرب. فالعلمانيون يفضلون النزوح عن مناطق تحكمها العقلية التوراتية التاريخية وتتدخل في خصوصيات الأفراد وتقرر ما يفعلون وما لا يفعلون. وعند العرب تختصر معركة القدس كل تفاصيل الصراع العربي - الاسرائيلي، وهي أهم عناوين اختبار القوة السياسية بين الطرفين، ومحك القوة الشرعية الدولية، ومدى قدرتها على فرض قراراتها، ومعاقبة الجاني. وفي المشهد السياسي الفلسطيني اجماع القوى المؤثرة على الساحة، السلطة الوطنية والمعارضة بكل فصائلها، لا سيما حركة "حماس" الاسلامية على خوض معركة القدس بكل الامكانات المتوافرة، وتوظيف كل العلاقات الدولية والمحلية لعرقلة المخطط الاسرائيلي، ومن ثم الالتفاف حوله الى ان يحين موعد المفاوضات الخاصة بالوضع النهائي للعاصمة الفلسطينية. فالسلطة والمعارضة دانتا أية مشاركة فلسطينية في الانتخابات، لأن الادلاء بالأصوات يعني شرعية الاحتلال. وأكد مسؤول ملف القدس فيصل الحسيني إدانة المشاركة في الانتخابات ترشيحاً وانتخاباً لأن "ضم القدسالشرقية لإسرائيل غير قانوني من البداية"، ولأن "احتلال اسرائيل القدسالشرقية يجعل الانتخابات البلدية غير شرعية". وهاجم كل من رموز السلطة الفلسطينية والمعارضة موسى عليان، العربي الوحيد الذي تحدى القرار الفلسطيني بالمقاطعة وترشح في الانتخابات، ولم يكن عليان مقنعاً لجمهور المقدسيين، ولا للإسرائيليين، ولم ينل شيئاً يذكر من الاصوات، وبالتالي لم يحقق "حلمه" في تبوؤ مقعد يمثل فيه العرب في بلدية القدس. إن معركة القدس تشكل قاسماً مشتركاً مهماً بين الفلسطينيين، فهم يرون فيها ثمرة جهودهم منذ قرن كامل تقريباً من التضحية والفداء والرباط، وهم يدركون انها مسؤوليتهم قبل ان تكون مسؤولية المجتمع الدولي الذي يميل في النهاية إلى الاقرار بالحقائق على الأرض اكثر مما يميل الى خوض معركة عن الآخرين. أبرزت معركة القدس انقسام المجتمع الاسرائيلي، فهل يتابع الفلسطينيون معركتهم المصيرية فيركزون على نقاط اللقاء بينهم - وما أكثرها - ويستعيدون لحمة بيتهم، ام تتغلّب العصبية الحزبية على نداء الوطن؟ * كاتب لبناني