في اجتماع الدول المانحة للسلطة الفلسطينية الأخير في واشنطن، تعهدت الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي بتقديم معونة إضافية للفلسطينيين، مجموعها 960 مليون دولار. وراحت واشنطن تستحث همم الآخرين الى الاتجاه نفسه، تحت شعار دفع مسيرة السلام وتنمية الاراضي الفلسطينية. ولأن السياسة الاميركية مشهورة باستخدام الاداة الاقتصادية، بالمنح او المنع، على رأس طائفة ادوات التأثير في مسار القضايا الدولية. وكذلك، لأن الجانب الفلسطيني كان قبل هذا الاجتماع دائم الشكوى من عدم وفاء المانحين بالتزاماتهم، فإنه يتعين اخذ الخطوة الاميركية لإعادة تشغيل آلية الدعم الاقتصادي للفلسطينيين، في اطار التحولات والمستجدات السابقة واللاحقة على مسار التسوية الفلسطيني، بحذر شديد. هنا، يلفت النظر ان هذه الخطوة الحماسية تلت توقيع مذكرة واي بلانتيشن، وهي تسبق بقليل الاستحقاق الفلسطيني المنتظر الخاص بتعديل إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني في منتصف كانون الاول ديسمبر الجاري، واللقاء الكبير لقوى المعارضة الذي يفترض ان يتم في التوقيت نفسه. وفق هذا المنظور الزمني، تبدو الولاياتالمتحدة حريصة على التعجيل بإبراز ثمرات العملية السلمية بشروطها ومضامينها في مذكرة "واي" بالنسبة الى الجانب الفلسطيني، وتعزيز مكانة مفاوضيه في الشارع العام. وبمعنى ما، فإن واشنطن بحماسها للتعبئة الاقتصادية الدولية الى جانب اقتصاد الحكم الذاتي الفلسطيني، تدخل على خط العملية السياسية الفلسطينية وتفاعلاتها الداخلية، بين اهل التسوية ومعارضيها، في لحظة بالغة الدقة. انها ترجح أنصار التسوية على المعارضين، وتؤشر للجمهور المتحرق الى الإنفكاك من حمأة الاوضاع الاقتصادية المتردية، على الفئة التي بوسعها الاستجابة لأشواقه. ولا يبتعد الاوروبيون عن هذه المقاربة، وهم الذين كانوا للحقيقة اشتقوا مفهوم الاقتصاد كطريق للوصول الى قلب السياسة من الاصل، ومن ذلك ان مستشار النمسا، الدولة المناوبة في رئاسة الاتحاد الاوروبي، ذكر اثناء زيارته لاسرائيل في آذار مارس الماضي "إن تحسين الأوضاع الاقتصادية في الضفة وغزة، يصب في مصلحة اسرائيل، لانه يمنع عوامل التطرف". ويستفاد من ذلك ان الاوروبيين والاميركيين سواء في فهمهم لصلة الاقتصاد بالسياسة في الحال الفلسطينية. فكلما تأزمت السياسة واضحى من الضروري فك عقدة فلسطينية على مسار التسوية، تلمس هؤلاء خزائنهم، وتجمعوا خلف يافطة تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين. ولهذا بالتحديد، قد ينبغي على المتابعين تحري الاهداف السياسية كلما ارتفعت هذه اليافطة في المنطقة او خلف أعالي البحار. وهناك سوابق تُغني عن تأكيد هذا الفهم مجدداً. ففي العام 1984، رفع شمعون بيريز شعار تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين، بتوسيع فرص النمو الاقتصادي، وإشراكهم في الشؤون الادارية بمنحهم صلاحيات واسعة. وكان هدفه المعلن وبوضوح "... اتاحة إمكان لارتباط قطاعات سكانية بالادارة الاسرائيلية، وفك ارتباطهم مع منظمة التحرير". وبلغ الامر بالرجل آنذاك الى المناداة ب "خطة لنقل السلطة تمكن الفلسطينيين عن الشؤون الادارية، وسحب القوات الاسرائيلية من مناطق الكثافة السكانية، ومع استمرار سيطرتها على الدفاع والامن والاقتصاد والسياسة الخارجية، وإلغاء القوانين العسكرية، وتنشيط الاقتصاد في الضفة وغزة وتوفير فرص عمل جديدة وإنشاء بنك عربي هناك". وفي ذلك الحين، هدأت ثائرة الليكوديين الذين تحفظوا على هذا التوجه، بعد ان اكد لهم بيريز ان خطته لا تنطوي على انسحاب اسرائيلي، وانما فقط "اعادة تمركز للقوات". كانت تلك سابقة، تلتها أخرى في آب اغسطس 1986، تولاّها الاردن وذلك في سياق ما عرف بالخطة الخمسية للتنمية في الضفة وغزة، وقدرت استثماراتها المطلوبة بنحو 3.1 بليون دولار. وافقت واشنطن على المحاولتين في حينهما، بل وتبنت شعار "تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين" ونسبته الى نفسها، وفي نهاية الثمانينات كان وزير الخارجية الاميركي جورج شولتز اكثر من ردّده، واقترن ذلك التوجه بكشف النقاب عن نشاط لرجال اعمال عرب ويهود مقيمين في الولاياتالمتحدة، بقصد إقامة مشاريع في الضفة وغزة، بمعزل عن منظمة التحرير واموالها او حتى جهود ما عرف باللجنة الاردنية - الفلسطينية لدعم صمود الارض المحتلة التي انشئت العام 1978. وعندما نعرض الآن لرحلة هذا الشعار، ندرك الفارق الإنقلابي في مسيرته واهدافه ومواقف الاطراف التي تبنته. فقد كانت منظمة التحرير تتوجس من الاجندة الخفية لمروجيه، طوال المراحل السابقة على اتفاق اوسلو 1993. قيل آنذاك انه شعار يهدف الى تقليص نفوذها في الارض المحتلة، وتوليف نخب بديلة مفاوضة او متواطئة من الداخل، وتطبيع اوضاع الضفة وغزة وتكييفها مع واقع الاحتلال. وقيل ايضا ان الذي يعطف على تلك الاوضاع بشكل حقيقي ونيات خالصة، عليه ان يتجه الى تفكيك الاحتلال وإزاحته لا توفيق حياة الناس معه، وكان ذلك تحليلاً لا يخلو من الحصافة. اما الآن، فقد انضم المفاوض الفلسطيني الى قافلة حاملي الشعار. وأضحى الاقتصاد حاملاً للسياسة. والاعتبار هنا، ان تحسين مستوى معيشة أبناء الارض المحتلة، سيشعرهم بفضائل التسوية الجارية ويسكن ثائرتهم تجاه منتجاتها، ويحول بينهم وبين غوائل قوى "التطرف" وهو التعبير الشائع لتوصيف المعارضين. على ان بعض المحللين لا يستمرىء نظرية اولوية الاقتصاد على السياسة، ولا يقدر صحة الزعم بإمكان ديمومة هذه النظرية. ففي قضية فلسطين كانت السياسة هي الاصل. ومما يقال في هذا الخصوص، إن المغريات الاقتصادية موقتة بطبيعتها، وانها قد تحدث انتعاشاً، يحجب رذائل السياسة، ولكن الى حين، وانه لو كانت هذه النظرية صحيحة حقاً، لمرّ مفهوم الشرق أوسطية ووعوده على الصعيد الاقليمي العام... الامر الذي ثبت فشله. والذي يفهم من اصحاب هذا الرؤية المغايرة نسبياً لمآل الشعار، هو ان تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين عموماً، لا في الارض المحتلة فقط، ينبغي ان يتوازى ويتزامن مع انشغال فعلي بتحسين المخرجات السياسية للتسوية، حتى تكون في اقرب نقطة من الحقوق السياسية الثابتة للشعب الفلسطيني. * كاتب فلسطيني.