يواجه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات اليوم المأزق نفسه الذي واجهه الرئيس اللبناني السابق شارل حلو قبل ثلاثين عاماً تقريباً. ففي عام 1968 أخذت حركة المقاومة الفلسطينية بالتمركز في الأراضي اللبنانية ك "قاعدة أمان" للثورة، وفي القيام بعمليات لضرب أهداف اسرائيلية. رداً على هذا الواقع بدأت اسرائيل والادارة الأميركية بممارسة ضغوط شديدة على الحكومة اللبنانية من أجل "تصفية المقاومة". واتسمت هذه الضغوط بقسوة بالغة خاصة عندما باشرت اسرائيل ما سمى حينها بأعمال "المطاردة الساخنة" لرجال المقاومة في الأراضي اللبنانية. والحقيقة ان بعض هذه الأعمال لم يكن من قبيل تعقب الفدائيين الفلسطينيين ومطاردتهم بقدر ما كان وسيلة اقتصاص من لبنان لأنه سمح بوجود المقاومة فوق أراضيه، وضغطاً على حكومته لكي تتولى هي انهاء هذه الظاهرة. وضعت السلطة اللبنانية آنذاك في مأزق تاريخي: اذا سكتت على أعمال المقاومة، يتعرض لبنان الى المزيد من الضغوط الاسرائيلية المهددة لأمنه ولسلامة أراضيه، كما يتعرض ايضاً الى ردة فعل غاضبة في واشنطن تؤثر على علاقاته مع دول الغرب. وإذا سارت السلطة اللبنانية في طريق آخر وقررت سلوك طريق المواجهة مع المقاومة - هذا اذا كانت أساساً تملك القدرة على سلوك هذا الطريق - فانها تعرض لبنان الى خطر الحرب الأهلية. النخبة الحاكمة اللبنانية أخذت آنذاك بالنظرية القائلة بأنه بين أمرين، احلاهما مر، أفضل للبنان ان يخسر قسماً من الأرض يمكن استرداده على أن يخسر وحدة ابنائه التي يصعب استرجاعها إذا ما فقدت. من هنا اتجهت السلطة اللبنانية الى التفاهم مع المقاومة الفلسطينية ووقعت معها "اتفاق القاهرة" بدلاً من التجاوب مع الرغبة الاسرائيلية - الأميركية. وأمل اللبنانيون آنذاك ان ينجحوا في تجنب الحرب الأهلية وفي احتواء الضغوط الخارجية معاً. هذا الرهان لم ينجح لأن الضغوط الخارجية استمرت ولأن الحرب الأهلية انفجرت بين اللبنانيين الذين انقسموا الى فريقين رئيسيين: واحد يطالب ببقاء المقاومة وحريتها، وآخر يطالب بانهاء الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان. السلطة الفلسطينية تقف اليوم في مأزق تاريخي مماثل، فكيف تخرج منه؟ هل تستجيب الى الضغوط الاسرائيلية - الأميركية فتقرر البطش بالمنظمات الفلسطينية التي لا تزال تمارس العمل المسلح ضد الاحتلال الاسرائيلي؟ ان قراراً من هذا النوع قد يجر الى الحرب الأهلية التي تخشاها وتحذر منها العديد من القيادات العربية والفلسطينية مثل "الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين" التي أصدرت قبل أيام قليلة بياناً تحذر فيه من "نار الحرب الفلسطينية - الفلسطينية". فضلاً عن ذلك فإن تنفيذ هذا القرار قد لا يكون سهلا إذا ما أخذ بعين الاعتبار التأييد الفلسطيني والعربي والاسلامي الذي تتمتع به تلك المنظمات وخاصة حركة المقاومة الاسلامية حماس، هذا علاوة على انتشار السلاح على نطاق واسع بين المواطنين الفلسطينيين. هل تتجاهل السلطة الفلسطينية الضغوط الاسرائيلية - الأميركية وتفسح المجال أمام منظمات المقاومة المسلحة لكي تقيم "قواعد أمان" في غزة وفي المناطق التي تغادرها القوات الاسرائيلية فتمارس منها نشاطها السياسي والتعبوي؟ هل تسمح لها بالانطلاق من تلك المناطق لضرب الاهداف الاسرائيلية كما كانت المقاومة تنطلق من الأراضي اللبنانية لضرب الاهداف الاسرائيلية في الجليل الأعلى، من شأن هذه السياسة ان تمنح حكومة ليكود المبرر لإيقاف "عملية السلام" والامتناع عن الانسحاب من بقية الضفة والقطاع، ولمزيد من التوسع في مشاريع الاستيطان والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية. القيادة الفلسطينية حاولت حتى الآن ان تسلك طريقاً ثالثاً بين هذين الطريقين، أي ان تعمل على احتواء منظمات المقاومة المسلحة وعلى تقليم أظافرها وتحييدها بواسطة العمل السياسي وعبر الاجراءات الأمنية المتدرجة والضغوط المتأنية البعيدة عن المواجهات الشاملة. واستخدمت القيادة الفلسطينية هذا الأسلوب في الماضي ونجحت فيه عندما كانت تملك هامشاً واسعاً من حرية الحركة. أما الآن فإنها لا تملك مثل هذا الهامش طالما ان الضغوط الاسرائيلية تشتد عليها بقصد دفعها الى استئصال منظمات المقاومة المسلحة. وتبدو هذه الضغوط منسجمة مع طبيعة الحملة التي تشنها حكومة ليكود على الزعماء الفلسطينيين ومع اتهامها لهم بأنهم يتهاونون إزاء "الارهاب الفلسطيني" وبأنهم لم يتخلصوا هم أنفسهم من الأرث الارهابي طالما انهم لم يعلنوا حرباً حقيقية ضد "حماس" وغيرها من منظمات المقاومة المسلحة. السلطة الفلسطينية التي سلّفت واشنطن تنازلات كثيرة تأمل ان تقوم بصفتها راعية لعملية السلام، بتهدئة هذه الضغوط، الا ان الزعامة الاميركية ليست في وضع يسمح لها حالياً بممارسة مثل هذا الدور، والتأثير على حكومة بنيامين نتانياهو. الأرجح انه لو مارست الزعامة الاميركية الضغط فإنه سيكون في معرض الاستجابة الى طلبات الاسرائيليين لا الفلسطينيين. والاسرائيليون يحضون الادارة الاميركية على اعتبار شن الحملات الاستئصالية ضد منظمات العمل المسلح دليلاً حاسماً ومطلوباً على أهلية السلطة لتسلم بقية الأراضي الفلسطينية التي ينسحب منها الاسرائيليون. ويمكن للمرء ان يلمس نموذجاً لتعاطي واشنطن مع مطالب الطرفين في تراجع "وكالة الاستخبارات المركزية" الاميركية عن المشروع الأمني الذي اقترحته لضبط العلاقة الاسرائيلية - الفلسطينية قبل محادثات "واي ريفر" لأن نتانياهو عارض هذا المشروع وطلب سحبه. هذه الأوضاع تجعل الفلسطينيين اليوم، كما كان اللبنانيونوالفلسطينيون قبل ثلاثة عقود من الزمن، وكأنهم اسرى أدوار رسمتها لهم الأقدار في مأساة اغريقية. ولكن المواجهات الاهلية الشاملة والدامية ليست، في رأي العارفين بأوضاع المنطقة، قدر الفلسطينيين المحتوم. لقد نجحوا في تفاديها في الماضي، وهم قادرون على تجنبها حاضراً ومستقبلاً على رغم شدة الضغوط. والسلطة الفلسطينية قادرة على مواجهة الضغوط التي تمارس عليها بالانكباب على اقامة حكم القانون والمؤسسات وتطبيق المبادئ الديمقراطية وتوطيد الاحترام للفرد الفلسطيني. عندها تعفي السلطة الفلسطينية نفسها من مسؤولية تنفيذ السياسات الاعتباطية والقمعية التي يطالبها الاسرائيليون والاميركيون باتباعها، بينما يترددون هم أحياناً في ممارستها. في الوقت نفسه تعتبر هذه الأوساط ان مسؤولية ابعاد شبح المواجهات الاستئصالية لا تقع على عاتق السلطة الفلسطينية وحدها بل أيضاً على عاتق منظمات المقاومة المسلحة. ويعتقد هنا ان "حماس" وغيرها من المنظمات قادرة على تخفيف وطأة الضغوط على الفلسطينيين عبر القيام بمراجعة تقتضيها الاعتبارات الأخلاقية والسياسية معاً. والمراجعة المقترحة تتعلق بمسألتين: اولاً: مراجعة الموقف تجاه العمليات الموجهة ضد المدنيين. ان هذه العمليات، مهما كانت مبرراتها، تلحق اضراراً كبيرة بالعمل الفلسطيني وتؤلب قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي ضد منظمات المقاومة، وتشحذ روح العداء والحقد ضد الفلسطينيين وضد العرب بين الاسرائيليين وفي أوساط عدة في الغرب. وكثيراً ما يسقط في هذه العمليات بعض الضحايا ممن لا يكنون عداء للفلسطينيين والعرب ومن هم يؤيدون حقوقهم العادلة. بل انه يحدث في بعض العمليات، كما حصل خيراً، ان يذهب بعض الفلسطينيين ضحايا لهذه العمليات التي لا تفرق بين الأبرياء والقتلة. لهذه الأسباب، ولاعتبارات أخرى متعددة، ميز التراث التحرري والانساني بين المدنيين والعزل، من جهة، وبين قوات الاحتلال التي تستخدم كأداة للقمع والقتل، من جهة أخرى. وتعتقد أوساط عربية وفلسطينية انه إذا التزمت منظمات المقاومة الفلسطينية المسلحة بهذا التمييز، فانها ستساهم مساهمة حقيقية في تصحيح صورتها حتى في بعض الأوساط المغرقة في عدائها للفلسطينيين والعرب. وتدعم هذه الأوساط رأيها هذا بالعودة الى تقويم الكونغرس الأميركي لأعمال المقاومة في جنوبلبنان. ففي الماضي اعتاد الكونغرس تصنيف هذه الأعمال في خانة النشاطات الارهابية، ولكنه صنفها هذا العام في خانة الأعمال العسكرية. هذا التغيير يتجاوز الشكل واللفظ اذا ما أخذ في الاعتبار الفرق، في الأوساط الدولية، بين الارهابي والعسكري. ولقد تمكنت المقاومة اللبنانية من اسقاط الصفة الارهابية عن نشاطاتها من دون ان تقدم أي تنازلات للاسرائيليين أو للكونغرس الأميركي المغرق في انحيازه الى اسرائيل. كان نجاح المقاومة على هذا الصعيد حصيلة تركيزها على الأهداف العسكرية وحدها وابتعادها عن التعرض للمدنيين الا في حالات استثنائية قليلة. ثانياً: مراجعة الموقف من العمل السياسي، أي المشاركة على أوسع نطاق في المؤسسات الفلسطينية السياسية. لقد قاطعت "حماس" انتخابات المجلس المحلي التشريعي الفلسطيني التي جرت في مطلع عام 1996، والاتجاه الغالب فيها يدعو الى استمرار هذه المقاطعة. ومما يقوي هذا الاتجاه ويعززه هو ذلك الاستخفاف الذي تظهره الزعامة الفلسطينية بالمجلس، حيث ان بعض اعضائه تعرض الى الضرب والاهانة فلم تعاقب، حتى الآن، الذين قاموا بهذا العمل المشين من عناصر اجهزتها الأمنية. إلا أنه، على رغم ضعف المؤسسة الفلسطينية التشريعية، فإن اشتراك "حماس" ومنظمات المقاومة الفلسطينية المسلحة في الانتخابات العامة، مستقبلاً، وفي سائر مؤسسات العمل الديموقراطي، يساعد، من جهة أخرى، على اضفاء مشروعية على منظمات المقاومة، ويقلل من فاعلية الضغوط التي ترمي الى حرمانها من "قواعد الأمان" ان لم يكن الى استئصالها. * كاتب وباحث لبناني