لم تصل الحالة الفلسطينية من الضعف التي تمر به الآن منذ اغتصاب فلسطين عام 1948، حيث تمر القضية الفلسطينية بأضعف حلقاتها أمام تعنت وصلف إسرائيلي، وعدم حيادية الراعي الأميركي لمفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مما جعل من المفاوضات وكأنها تبدو على شكل تنفيذ طلبات لما يمليه الجانب الإسرائيلي من شروط في هذه المفاوضات، ولذلك لا بد من استعراض الأسباب التي أوصلت الجانب الفلسطيني إلى هذه المرحلة الحرجة من الضعف، سواء أكانت داخلية أم خارجية. منذ انعقاد مؤتمر بال عام 1897 الذي كان مقدمة لاغتصاب فلسطين، مروراً بوعد بلفور عام 1917، الذي تعهدت فيه الحكومة البريطانية بالعمل على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وانتهاءً باغتصاب فلسطين عام 1948، تباينت الرؤى بين الدول العربية آنذاك حيال معالجة القضية الفلسطينية، إذ أظهرت حرب عام 1948 بين الدول العربية والعصابات الصهيونية، وإعلان دولة الكيان الصهيوني والاعتراف بها من الدول الكبرى دائمة العضوية، عدم وجود خطة منظمة أو استراتيجية واضحة لدى الجانب العربي والفلسطيني لمواجهة الكيان الصهيوني، لذلك انعكس عدم وجود استراتيجية عربية متفق عليها على الجانب الفلسطيني، فبدأت الخلافات الفلسطينية - الفلسطينية تبرز حول سبل استعادة فلسطين وطرد الكيان الصهيوني الغاصب، وقامت العديد من الدول العربية بتبني العديد من المنظمات الفلسطينية، إذ أعلن قيام منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 وحركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» التي أعلنت عن أولى عملياتها عام 1965. لكن مسار القضية الفلسطينية تغير بشكل دراماتيكي بعد هزيمة عام 1967 واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة من فلسطين وهضبة الجولان من سورية، حيث برز الكفاح المسلح من خلال ظهور العديد من التنظيمات الفلسطينية المسلحة بزعامة حركة فتح، كبرى التنظيمات المسلحة، وتمركزت تلك التنظيمات في الأردن وسورية ولبنان، وجيش التحرير الفلسطيني في مصر، لكن تلك التنظيمات المسلحة انخرطت في المشكلات الداخلية لبعض الدول العربية، وهو ما خلق نوعاً من الشك بين الجانبين تحول إلى صراع مسلح بين الجانبين، في الأردن عام 1970 ولبنان بدأ عام 1975، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من البلدين، وهو ما انعكس على مسارات القضية الفلسطينية بشكل سلبي عربياً وعالمياً. لقد كان الخيار السياسي التفاوضي مع الجانب الإسرائيلي هو خيار منظمة التحرير الفلسطينية بعد فقدانها لقواعدها العسكرية في لبنان عام 1982، مع الأخذ في الاعتبار الاستفادة من الداخل الفلسطيني في التحرك الشعبي ضد الاحتلال في الأراضي المحتلة عام 1967، إذ قامت انتفاضة عام 1987 التي كان لها الأثر الكبير في خدش الصورة الذهنية لإسرائيل في الرأي العام العالمي بسبب ظهور الفضائيات في ذلك الوقت ووصول صور القمع الإسرائيلي للفلسطينيين إلى مختلف أنحاء العالم، لكن الجانب الفلسطيني لم يستطع تطوير تلك الانتفاضة وغيرها من الانتفاضات الأخرى بشكل جيد، إضافة إلى قيام الإسرائيليين باغتيال مهندس تلك الانتفاضات القيادي في منظمة التحرير خليل الوزير (أبو جهاد). كان لمفاوضات أوسلو عام 1991، والاتفاق بين الجانبين على انتهاج المفاوضات كسبيل وحيد لاستعادة الحقوق الفلسطينية، الأثر الكبير في مسار القضية الفلسطينية وتعميق الخلافات بين مختلف الفصائل والتنظيمات الفلسطينية، وكان هذا الخلاف انعكاساً لخلافات عربية حول سبل معالجة القضية الفلسطينية، ولذلك بدأت تظهر بعض الحركات مثل المقاومة الإسلامية (حماس) والانشقاقات بين الفصائل الأخرى، خصوصاً منظمة فتح، ولذلك اعتبر العديد من المراقبين والمحللين أن اتفاق أوسلو كان انتحاراً سياسياً في ذلك الوقت، بينما يرى المؤيدون له أنه كان الخيار الوحيد في ظل التشرذم العربي الذي ازداد عمقاً بعد احتلال العراق للكويت. واليوم تعيدنا المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية إلى أجواء التسعينات، حيث تراجعت القضية الفلسطينية بشكل كبير في أجواء الربيع العربي، وأصبحت الحكومات والشعوب مشغولة بقضاياها الداخلية، وهو ما جعل القضية الفلسطينية تتراجع ليس على المستوى الرسمي فقط، بل على المستوى الشعبي، إضافة إلى قيام حركة حماس بقراءة خاطئة لأحداث مصر، فيبدو أنها تدخلت في الشأن المصري، انعكس ذلك على علاقتها مع الحكومة الجديدة سلباً، وبدأت تدفع ثمن هذه القراءة الخاطئة، سواء على مستوى المصالحة بينها وبين فتح أم على المستوى الاقتصادي في غزة التي تعتمد على حركة الأنفاق بينها وبين مصر. اختارت الولاياتالمتحدة الأميركية توقيتاً مناسباً لإسرائيل، فالفلسطينيون متفرقون كحكومة بين «حماس» التي هي الآن في أضعف حالاتها، والسلطة في رام الله، والعرب مشغولون في قضاياهم، لذلك وافق الفلسطينيون على المفاوضات رغم قيام إسرائيل بالبدء ببناء 1200 وحدة سكنية في الأراضي المحتلة وحول القدس بالتحديد، وكذلك قامت الحكومة الإسرائيلية بالحصول على موافقة الكنيسة على طرح أي اتفاق بينها وبين الفلسطينيين للاستفتاء، وهو ما يقطع الطريق على أي حكومة إسرائيلية في المستقبل بالموافقة على الانسحاب من الأراضي المحتلة من دون استفتاء، علماً أن هناك موافقة وبحسب ما تسرب من بعض المصادر على احتفاظ إسرائيل بالكتل الاستيطانية الكبيرة وضمها للسيطرة الإسرائيلية، وهو ما يعني خسارة كبيرة من أراضي الضفة الغربيةالمحتلة. تمثل المفاوضات الحالية بين الفلسطينيين والإسرائيليين وبرعاية أميركية وحيدة انتحاراً سياسياً في هذا الوقت بالذات، فهي لن تفيد الشعب الفلسطيني بشيء، بينما يريد الأميركي أن يحقق من خلالها اختراقاً في حل القضية الفلسطينية، يجيره لقضايا أخرى، والإسرائيلي لا يريد أن يتنازل أن أي شيء، بل العكس يطلب من الجانب الفلسطيني التنازل، لذلك الخاسر الوحيد في هذه المفاوضات هو الجانب الفلسطيني والأمتان العربية والإسلامية، خصوصاً في هذا الوقت الذي تعم الفوضى والفرقة العالم العربي. * أكاديمي سعودي. [email protected]