"لا شيء في العالم يمكن أن يكشف المبدع مثل ابداعاته نفسها. لا شيء إطلاقاً"، أما كتابة المبدع عن نفسه، وعرض ما كتبه على الآخرين، فهو يجعلهم "يستخفون برسم صورة حقيقية له"، خصوصاً حين يكون هذا الذي يكتب مخرجاً سينمائياً في وزن وأهمية الياباني أكيرا كوروساوا الذي يقول هذا الكلام، وهو يختم سيرته التي يسميها "ما يشبه السيرة الذاتية" بقوله لمن يريد أن يعرف ماذا حل به بعد فيلمه الشهير "راشوموت"، ان عليه أن يحدّق في أبطال أفلامه اللاحقة، حيث "أنا موجود مع كل هؤلاء الأبطال بكاملي". لا يبوح كثيراً المخرج الياباني الذي رحل عن عالمنا في الثامنة والثمانين من عمره، مخلفاً عشرات الأفلام التي وضعته، منذ العام 1951 وفيلم "راشومون" الذي نال العديد من الجوائز أولها كانت جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية 1951، في مقدمة المخرجين، ثم كرسته منذ العام 1982 واحداً من أفضل المخرجين في العالم، لا يبوح كوروساوا سوى بالقليل في "ما يشبه السيرة الذاتية"، غير أنه يبوح بما يكفي ليلقي أضواء على جوانب أساسية في هذه الذات القلقة وشديدة الحساسية والتوتر، لمخرج حاول منذ بداياته الابتعاد عن كل ما هو عادي، ليغوص في أعماق الروح الإنسانية، وليعرّي هذه الروح الممزقة بين قطبي الصدق والكذب، الروح التي تشبه الغابة التي كان كوروساوا يدفع الكاميرا في أعماقها ليظهر عالم الضوء والظل. كوروساوا هذا، وكما يروي باعتزاز، كان أول من فكّر بأن يكسر التابو المتمثل في تصوير الشمس حين كان الاعتقاد السائد هو أن الأشعة لدى تركزها على محيط العدسة وبؤرتها تحدث حروقاً في الشريط، لكنه أصر على تصويب الكاميرا الى تلك الكتلة المتوهجة، وهكذا وجّه المصوّر "كادزو مياغافا" الكاميرا - بشجاعة - نحو الشمس وأثبت أن ذلك الاعتقاد ليس سوى ترهة. قبل "راشومون" كان قد أخرج ما يقارب من تسعة أفلام، وبعده قدّم الكثير، إلا أن هذا الفيلم ظل هو "البوابة التي خرجتُ منها الى العالم الفسيح كسينمائي". فمن أية بوابة دخل كوروساوا الى السينما؟ الذكرى الأولى التي يحتفظ بها تعود الى السنة الأولى من حياته. كانت أمه قد وضعته في حوض الماء وذهبت لتخلع ثيابها وتعود لتغسيله، فانقلب به الحوض، وجاءت الأم لصراخه فوجدت الحوض فوقه، لكنه - حتى اليوم "لا زلت أعايش رهبة طيراني المفاجىء والبلل الذي لحق بأثاث الغرفة، ثم النور المفاجىء الذي سطع فيها" و"الإضاءة القوية التي سطعت انبعثت من لمبة الكاز المعلقة فوقي، ولا أعرف لماذا تأرجحت عندما حدّقت أمي بوجهي، وأطلت من خلفها وجوه كثيرة". إلا ان شقيقته الكبرى أكدت له ذكرى من ميلاده الصامت، إذ لم يصرخ كما يصرخ المواليد، وإنما جاء عاقداً يديه فوق بعضهما "وبجهود كبيرة تمكنوا من فكهما، وقد شاهدوا مندهشين آثار ازرقاق عليهما". في طفولته الأولى كان أكيرا ضعيف البنية، قليل القدرة على الاستيعاب، حتى انه لم يكن يستطيع مجاراة زملائه في الصف الأول الابتدائي، فكرة المدرسة، كما أن ضعف بنيته الجسدية جعلته يكره أنواع الرياضة قبل أن يعلمه شقيقه الذي يكبره بأربعة أعوام، وبالقوة والإكراه، السباحة التي اكتشف كم هي ممتعة. وفي المدرسة كان قدوم أستاذ بعينه كافياً لينقلب التلميذ "الشقي" الى مستوى رفيع. ولشخصية الأب حضور كبير ومؤثر. فهو صارم وحاسم كما يليق بعسكري محترف، إلا أنه كان يأخذ أبناءه الى السينما، ليس لأنها للمتعة والتسلية فقط، بل لاعتقاده الأب بأن السينما "أداة معرفية". والى هذا الأب وذلك الشقيق، كان الصديق الذي سيغدو كاتباً شهيراً - كينوسكي ويكوسا، والذي "سيورّط" كوروساوا في حياة حزبية سرية ممتعة لكنها قصيرة نظراً لعدم توافقها مع روح ذلك الفتى الرقيق، ذي الوجه الرقيق "أشبه بوجه فتاة". ومنذ وقت مبكر سيكون لأفلام "الويسترن" ل"جون فورد" - التي تمجِّد رجولة البطل في الغرب الأميركي أن تدفع روح الرجولة والدم البارد كي تعشش في روح الفتى الذي كان يفضل الأفلام الأجنبية. في العام 1923، أصاب زلزال كبير "كانتوسكو"، فكان مناسبة لكي يدرك الفتى، في الثالثة عشرة من عمره، ليس قدرات القوى الظلامية للطبيعة وحسب، بل جوانب غير جلية في الروح الإنسانية أيضاً. وسيظل يتذكر "تلال الظلامية" المتمثلة في استغلال "الديماغوجيين" للعتمة وارتكاب المذابح الجماعية للكوريين: ليتساءل "أي مخلوق هو هذا الإنسان... وما هي ماهيته؟". ومثلما ساعد الأستاذان "تاتشيكافا" و"إيفا ماتزو" التلميذ أكيرا على تطوير شخصيته في المدرسة، إذ كانا يتركان له حرية التعبير بعيداً عن الطرق الجامدة في التعلم والتفكير، فقد كان لمخرجين كبار تأثير في مسيرته السينمائية. كان "كادجيرو ياماموتو" قد فتح له أبواب اللغز، و"جون فورد" التفت اليه ببصيرته النفاذة وأعطاه دفعاً كبيراً للتقدم، وكان "ياما سان" هو "أهم معلم في حياتي"، فقد كان "ياما سان" يهتم "بالفن الياباني القديم، يثمن عالياً نتاجات الحرفيين، ومعلوماتي في هذا المجال تعود في معظمها اليه". وهذا المخرج الكبير هو الذي علّم أكيرا "إذا أردت أن تصبح مخرجاً، تعلّم أولاً كتابة السيناريو"، كما علمه أن من لا يتقن "المونتاج" لا يستطيع أن يكون مخرجاً، وحتى يصبح المرء مخرجاً ينبغي له أن يجيد إدارة الممثل. وفي مسيرته، هناك قلة يتحدث عنهم بوصفهم "الناس الطيبون" الذين لا يعيشون طويلاً: ميكيوناروسي، إيسكي تاكيدزافا، شوفو شيميدزو، شين إينوي، كيندجي ميدزو غوتشي، ياسود جيرو أودزو، ياسود جيرو شيمادزو. في اللحظة التي كان على الكاميرا أن تعمل في فيلمه الأول "سانشيرو سوغاتا"، هدر صوته راجفاً "انتباه... كاميرا"، فاكتشف - حين التفت الجميع نحوه - "أن الإنسان يبدو مختلفاً عندما يصور أول كادر في فيلمه الأول"، لكن الرجعة راحت تختفي بالتدريج، وبعد تصوير المشاهد الأولى اختفت شكوكه في امكانياته، وبدأ يعمل بثقة، وثقة عالية جعلته يواجه أكبر المصاعب باستثناء عقبات الرقابة التي كانت بيد موظفين أغبياء في وزارة الداخلية. وإذا كان قادراً على نسيان حوادث وشخوص فيلمه بمجرد البدء في فيلم جديد "فإن أبطال أفلامه كلها لا يلبثون أن يتوالدوا من جديد. إنهم "يحتشدون في رأسي، ويحدثون صخباً، كل واحد فيهم يريد مني أن التفت بانتباهي اليه... انهم مثل أطفالي. خلقتهم وربيتهم وأحبهم بالتساوي، وأريد أن أكتب عن كل واحد منهم. لكن هذا غير ممكن الآن". فهل كتب، فيما بعد، كتاباً آخر يتذكر فيه أبطاله/ الممثلين الذين عمل معهم، الطاقم الذي يقول إن "وطأة الفراق" معه، كانت دائماً، عندما ينتهي العمل "أكبر من إحساسي بالفرح للقاء أهلي"؟ كان إحساس كوروساوا بالهزيمة اليابانية أمام أميركا قد جرى التعبير عنه في صور شتى، إلا أن أهم الصور في مواجهته مع امرأة أميركية أثناء تصوير "الكلب المسعور"، حين أصرت المرأة التي تنتمي لجمعية الدفاع عن الحيوانات على أنها ستقدمه للمحاكمة بتهمة حقن الكلب بإبرة سُعار. التهمة ملفقة، وحاول أن يُفهمها ذلك بوسائل شتى. إلا أن كانت تبالغ في إلحاحها، الى الدرجة التي جعلته يشعر أنها تقوم بتعذيبه وأنه في حاجة الى جمعية للدفاع عن البشر، و"أعترف بأنني أسفت في تلك اللحظة، لأن اليابان خسرت الحرب" إذ أصبحت مرتعَاً للاحتلال الأميركي في مجالات عديدة. يتحدث كوروساوا، في حميمية فائقة، عن الماضي. عن السينما الصامتة - مثلاً - التي "تركناها لتغرق دون تشريفها بالاحترام. لنسينا جماليتها المغدقة وافراطها في التعبير البصري". وعن العمل في سن الشباب، حين كانت الانفعالات والعواطف تتحكم أحياناً، أما الآن "ومهما يكن المشهد مؤثراً، فإنني أستطيع ادارة الممثلين بدم بارد. لكن هذا محزن". ويختم، رغم وجود الكثير مما ينبغي قوله، باعتراف جريء حول شخصيته حيث يقول "أنا لم أَبدِ أي مقاومة ضد الفاشية اليابانية، للأسف لم تكن عندي الرجولة الكافية لإبداء مثل هذه المقاومة - بدل ذلك وجدت الطرق الملائمة للتهرب منها. أخجل من سيرتي هذه، ولكن ينبغي أن أكون شريفاً...". فكيف نقابل اعترافاً كهذا، نحن الذين لا نفعل شيئاً في مواجهة الفاشية التي تمارسها أنظمة الحكم في بلادنا، وفي العالم؟! * صدر الكتاب عن المؤسسة العامة للسينما، وزارة الثقافة السورية، سلسلة الفن السابع رقم 16، ترجمة فجر يعقوب، 1996.