بما يشبه السيرة الذاتية، يكتب المخرج الياباني أكيرا كوروساوا (1910 – 1998) في كتابه (عرق الضفدع - منشورات المتوسط) حول محطات هامة ومفصلية في حياته الشخصية والسينمائية، من دخوله طفلا إلى صالات السينما "الصامتة" مرورا بحديثه الشجي عن أخيه المثقف الذي مات منتحرا بعد تحول السينما إلى "ناطقة" ثم عمله بالصدفة في شركة إنتاج كمساعد مخرج وصولا إلى محطته الأهم وهي الإخراج السينمائي. الكتاب الذي نقله أخيرا إلى العربية الكاتب والسينمائي الفلسطيني فجر يعقوب، يفشي فيه كوروساوا حكايات وأسرار أفلامه الأولى منذ إخراجه أول فيلم (سانشيروا سوغاتا) عام 1944 إلى فيلم (راشومون) عام 1951 والذي فاز بجائزة الأسد الذهبي كأول فيلم ياباني يفوز في مهرجان دولي، ثم بجائزة. وعن هذا الفيلم يكتب امبراطور السينما اليابانية: " لم يناسب المزاج العام في الشركة (المنتجة) وأبطأ التصوير بسبب اعتراضات مسؤولي الشركة بحجة محتوى الفيلم غامض، العنوان ليس جذابا". مشيرا إلى أنه في هذا الفيلم، حاول استعادة جماليات السينما الصامتة: " مع ظهور السينما الناطقة. كنا نسينا السينما الصامتة وتركناها دون تشريفها بالاحترام، نسينا جمالياتها المغدقة وإفراطها بالتعبير البصري وشعرت أني أفتقدها لهذا الفيلم بالذات، فهي - السينما الصامتة - المعين الأول للسينما.. وفيلم (راشومون) كان حجر البروفا للعودة إلى نبع السينما الصامتة". متوقفا عند رؤية ومقولة الفيلم التي تسبر أعماق النفس البشرية: " الأبطال في السيناريو يعبرون عن ماهية الإنسان، عن أنه لا يستطيع ولا يريد العيش دون كذب وهذه الميزة الإنسانية مفضوحة في عمق السيناريو". المفارقة أنه بعد فوز الفيلم، ظهر رئيس الشركة المنتجة الذي وقف ضد تصويره، وهو يمتدح الفيلم ويشيد بدوره هو في إنتاجه دون ذكر اسم كوروساوا أو مدير التصوير. ما دفع كوروساوا للتعليق: " رأيت على الهواء مباشرة تلك اللعبة التي حاولت أن أكشفها في الفيلم" أي "ذلك الإنسان المغلق أمام ذاته ولايستطيع العيش دون الكذب". علاقة كوروساوا بأخيه تكاد تكون أكثر الأجزاء تأثيرا في الكتاب، فأخيه الذي مات منتحرا قبل بلوغ الثلاثين، ترك ندبا في قلب كوروساوا، ربما لأنه كان بابه الأول للانفتاح على قراءة العديد من كتب الأدب والتعمق في الفنون. يكتب المخرج الياباني متسائلا: " ماذا لو أن أخي لم ينتحر وبدأ العمل في السينما معي.. لأصبح اسما كبيرا في عالم السينما". فأخيه كان يعمل كمفسر للأفلام الصامتة وعندما دخل الفيلم الناطق، فقد وظيفته فكانت نكسة مؤثرة إلى جانب الطابع السوداوي للأخ الأكبر، خلافا لكوروساوا كما سنعرف في ثنايا "عرق الضفدع". البداية السينمائية كانت محظ صدفة، عندما قرأ أكيرا، إعلانا للعمل في شركة إنتاج. تقدم للمسابقة وبعد اجتيازه الاختبار قُبل. كان ذلك في العام 1936، وهناك تعرف على "المعلم" ياماسان، والذي عمل بجواره كمساعد مخرج تعلم منه أصول الحرفة السينمائية وأخذ منه بعد 8 سنوات إشارة البدء للانطلاق لعالم الإخراج. عن ياماسان وتلك الفترة يكتب صاحب فيلم " الساموراي السبعة" بوفاء واحترام شديد: " بعد أن عملت كمساعد مخرج بدأ ياماسان يحرضني على كتابة السيناريوهات". قائلاً: " إذا أردت أن تصبح مخرجا، تعلم أولا كتابة سيناريو". وهكذا بدأ مساعد المخرج استثمار الوقت الضيق في كتابة صفحة سيناريو واحدة يوميا، لينجز أول نصوصه التي تلقت ملاحظات ثاقبة من "المعلم"، منتقلا للتعمق في تفاصيل بقية أجزاء العملية الإنتاجية والإخراجية من الاختصاصات الفنية إلى إدارة الممثل. وعن تجربة أول فيلم يقول: " عندما وقفت في مكان المخرج تفتحت عيناي فجأة ورأيت ما لا يمكن أن أراه في أثناء عملي كمساعد مخرج، رأيت الفرق بين أن تخلق أنت ما هو خاص بك وبين أن تساعد أحدا ما". في الكتاب نقرأ آراء متفرقة لأكيرا كوروساوا حول السينما والقضايا المتصلة بها، فبعد دخول التلفزيون تضررت السينما التي يقول عنها: " يزعم البعض أن انهيار السينما قضية عالمية ولكن لماذا تمضي السينما الأميركية في فتوحاتها في عالم الفن السابع؟". مشيرا " إلى أن السينما الأميركية تأخذ على عاتقها الفن السابع بوصفه الفن المرتبط ارتباطا وثيقا بالتطور العلمي والتقني وللمنافسة مع التلفزيون، هذه القوة الجاذبة الهائلة، على السينما أن تتسلح بالتقنيات الحديثة، فالتلفزيون لا يوفر فتحا في عالم التقنية إلا ويستخدمه في تحسين طريقة أدائه". فالخطورة " أن التلفزيون يشبه السينما ويختلف عنه جذريا". يتوقف حديث كوروساوا عن أفلامه " فلاشيء في العالم يمكن أن يكشف المبدع مثل إبداعاته نفسها" على حد قوله، في ختام "عرق الضفدع" والذي يعبر عنوانه" عن ذلك الغموض الياباني في كتابات أكيرا كوروساوا لسيرته التي تذكر بالضفدع المتروك في علبة محاطة بداخلها مرايا تصور تشوهات صوره وتعددها، فيفرز العرق الذي يتحول - وفق العادات اليابانية - إلى نقيع مغلي يساعد على مداواة الجروح والحروق. فالمرايا كثيرة حول هذا المخرج الامبراطور وفق مترجم الكتاب، وبلا شك، هذا الكتاب واحد من المرايا التي تظهر أبعادا في شخصية وتجربة صاحب الروائع الخالدة في تاريخ السينما اليابانية والعالمية.