توجد ملاحظة جوهرية جديرة بالفحص والتمحيص وينبغي على قادة الحركات الاسلامية والمعنيين بملفها أن يلتفتوا إليها، وهي أنه في كل الأحوال تقريباً التي اضطلعت فيها هذه الحركات بالتصدي للعدوان الخارجي على بلدانها لاقت تأييداً شعبياً كبيراً وحققت نجاحات واسعة على رغم تواضع الامكانات المادية والبشرية. ولعل الاقتباس الواقعي لهذه الأولية يكمن في ما جرى على أرض أفغانستان من بروز دور قيادة الحركة الاسلامية الأفغانية في التصدي للغزو الروسي وسحقه بل تصدير المجاهدين الأفغان لأفكار الثورة الإسلامية خارج حدودها إلى آفاق العالم، والاسلامي منه على وجه الخصوص. وشيء من هذا جرت أحداثه على أرض البوسنة والشيشان. لكن الموقف يتغير بصورة كبيرة عندما تصطدم هذه الحركات داخلياً بالحكومات الاقليمية وما يمكن ان يسببه مثل هذا الصدام من توابع دامية للجماعات والحكومات على حد سواء. ولعل المأزق الحقيقي الذي يواجه طلائع هذه الحركات يتمثل في أنها تصطدم داخلياً بحصول الالتباس لدى بعض طوائف الشعب التي قد يصعب عليها أن تتقبل فكرة منابذة الحكام الذين يعلنون الاسلام ويرفعون الأذان على المساجد، ولا يهضمون كثيراً عميق الفقه الاسلامي في بحوثه التي تتعلق بنقض الحاكم عند الامتناع عن تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية في دياره، مع تنامي الزخم والصخب الاعلامي المؤيد لدوائر الحكم القائمة. بينما حققت بعض هذه الحركات نجاحات لا بأس بها في تأكيد فاعليتها وترسيخ هويتها عبر نضال سلمي بوسائل قد تتغير من قطر الى آخر. فإذا كانت التجربة السلمية للحركة الاسلامية في تونس أخفقت، إلا أن مثيلتها الجزائرية حقّقت نجاحات باهرة في بداية مشوارها حينما حازت ثقة الناخبين في الانتخابات الاشتراعية قبل أن ينقضَّ الجيش على مكاسبها. وحققت هذه الحركات أيضاً تقدماً ملحوظاً في الأردن واليمن والسودان. وعلى رغم استطاعة الجيش أن يفرض كلمته على نجم الدين اربكان في تركيا العلمانية بتقويض دعائم حزبه الذي شارك في السلطة للمرة الأولى، لكن أحداً لا ينكر مدى ما حققه أربكان عبر نضاله السلمي واجتهاداته الخاصة التي نختلف معه في بعضها. والمداخلة الأولى مع الملاحظة السابقة تكمن في ضرورة الإجابة عن تساؤل مهم: هل يمكن للنظام العالمي في ظل العولمة ان يقبل الوجود العلني للحركات الاسلامية، بحيث تسير الطريق الى نهايته وفق منظومة تداول السلطة ويكون للجماهير الحق في الاختيار من دون أن يتداخل في النظام العالمي بمؤسساته الاقليمية في وضع العراقيل في طريق هذه الحركات؟ أما المداخلة الثانية، والتي أرجو أن تعيرها النخب الثقافية والفكرية العربية والاسلامية اهتمامها بعناية وحْيدة فهي ضرورة فحص الخطاب الدعوي لهذه الحركات الاسلامية بفصائلها المتعددة التي تعتنق عقيدة أهل السُنَّة والجماعة، لبيان ما اذا كان مشروعها ينهض على العنف في شكله ومضمونه في ظل المناخ الذي يسمح لها بانسيابة الدعوة وعلانية الأداء، بحيث تعبر عن آرائها ومعتقداتها، أم أن الإجراءات الصارمة توضع في طريقها للحيلولة دون انطلاقاتها ما يؤدي إلى العنف؟ وهنا بالتحديد يحسن أن نقرر بشكل حاسم ان المراجعات المطلوبة للعنف السياسي لا ينبغي أن تكون فقهية فقط، وإنما من المهم أن توجد مراجعات أمنية. فحال الاحتقان السياسي والأمني التي تعاني منها بعض الدول الاسلامية والعربية، والاجراءات الأمنية الصارمة بها، لم تمنع أن تخرج من رحمها حوادث عنف بالغة القسوة والضراوة ومنها مثلاً الحادث الذي وقع في مدينة الأقصر في جنوب مصر العام الماضي. فالتوقيف العشوائي والتوسع في الاعتقال الإداري بموجب الأحكام العرفية، وعدم تنفيذ أحكام القضاء بإطلاق المعتقلين والسجناء السياسيين، والقتل خارج نطاق القانون، وهي كلها اجراءات تحتاج الى مراجعة أيضاً في كثير من الدول العربية. ويمكن للمدقق أن يلحظ نتيجة هذه المراجعات الأمنية على الموقف في مصر. فمنذ لاح في الأفق حدوث هذه المراجعات الأمنية، تواكبت معها بالضرورة المراجعة الإسلامية أو الفقهية للعنف السياسي، فترتب على هذه وتلك هدوء حذر توقفت معه أصوات الرصاص. بقيت مداخلة أخيرة حول موقف "حماس" و"الجهاد الاسلامي" في فلسطينالمحتلة، وهل يمكن أن تنسحب عليها المراجعات الفقهية الاسلامية للعنف. تلك مسألة حسمها الرأي الراجح في الفقه الاسلامي وتبنّاه كثيرون من أهل العمل حتى في المؤسسات الدينية الرسمية كالأزهر، بحق هذه الحركات في مواصلة كفاحها المسلح كوسيلة جهادية لتحرير أراضيها، بل هو واجب المسلمين جميعاً حتى يستعاد بيت المقدس. وإفراغ "حماس" وحركة "الجهاد الاسلامي" من وسائلهما الجهادية الثورية هو خلط للأوراق يستفيد منه غلاة الصهاينة الذين يسعون إلى تحقيق أحلامهم القديمة في اقامة دولة اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات. * محام مصري.