ينتمي غالبية العلمانيين المصريين إلى الأصول اليسارية والشيوعية، التي تأسست على يد الشيوعي اليهودي (هنري كورييل) في ثلاثينيات القرن الماضي (العشرين)، وهي الأصول التي لا تزال حاضرة في الأدبيات العلمانية المتعاقبة، وفي مواقفها من "الدين" أو من المشروع الحضاري الإسلامي وإلى اليوم، على النحو الذي يحمل المراقب المدقق على الاعتقاد بأنه لا يوجد في مصر مثقف أو ناشط سياسي أو تنظيمي علماني، إلاّ وكان حاملا للجينات الوراثية للحركة الشيوعية واليسارية المصرية، وبشكل يصعب معه فرز التيارات الليبرالية التي ظهرت مع الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، كقوى لها خصوصيتها التي تميزها عن اليسار؛ إذ يبدو الجميع وكأنهم يساريون. وفي هذا السياق فقد عارض "العلمانيون اليساريون" المصريون مبادرة وقف العنف التي أطلقتها الجماعة الإسلامية عام 1997، وهي المبادرة التي حقنت دماء المصريين؛ إذ لم تشهد البلاد بعدها منذ عام 1998 أي حادث عنف أو مواجهات عسكرية بين الجماعة الإسلامية والسلطة، فيما مارسوا حملة تشويه عاتية على "المراجعات الفقهية" للجماعة الإسلامية والتي صدرت تباعاً، فيما سُمّي ب "سلسلة تصحيح المفاهيم"، استهلها الشيخان أسامة حافظ وعاصم عبد الماجد بكتابهما الأول: "مبادرة وقف العنف: رؤية واقعية ونظرة شرعية" عام 2002، ولاحقوا بحملة مشابهة مراجعات جماعة الجهاد والتي تُوّجت عام 2007، بصدور كتاب "ترشيد الجهاد"للدكتور فضل "سيد إمام عبد العزيز الشريف"، وهو أكبر مرجعية فقهية للجماعات الإسلامية المسلحة، ويُعدّ كتاباه الشهيران: "العُمدة في إعداد العدّة" و"الجامع في طلب العلم الصحيح"، الميثاق المرجعي لكافة الحركات الإسلامية النضالية في العالم، وقد شكك اليسار في صدقية مراجعات أكبر حركتين جهاديتين ظهرتا في العصر الحديث بصفتهما: إما نمطاً من "التقية السياسية" التي تقتضيها ما تحقق لها من "شروط الاستضعاف" من جهة، وإما بالإساءة إليها، بوصفها ب"المراجعات الأمنية"، والتلميح والتصريح بأنها كُتبت في مكاتب "جنرالات الداخلية" من جهة أخرى! وإذا كان ثمة خلافات وقعت داخل الحالة الإسلامية في مصر، حول المراجعات، فإنه كان "خلافاً" لاحقاً على "إجماع" سابق داخلها على "شرعية" مبادرة وقف العنف، من جهة، فيما كان أي الخلاف قد اقتضته طبيعة الوظيفة الاجتماعية للحركة الإسلامية والتي تتأسس شرعيتها على "المسؤولية الدينية"، وهو خلاف طبيعي في فضاء الاجتهاد الديني ورحابته وتنوّعه وتعدده المعروف، غير أن موقف اليسار المصري، على رفض المبادرة أولاً ثم مرجعيتها الشرعية "المراجعات" تالياً، كان في واقع الحال، اختباراً كاشفاً، للدور التحريضي لليسار على تأجيج الفتن السياسية في مصر، ووأد أي مشروع تصالحي للتهدئة، يقدم المصالح الوطنية على مصالح الجماعة أو الحزب أو التنظيم أو الطائفة. وإذا كانت مشاركة اليسار المصري في "حرق القاهرة" عام 1977 بعد اختطاف انتفاضة "يناير"، ثم في اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات في عام 1981 ب"التحريض" على قتله، ثم بالمشاركة في التنظير الثقافي والفكري لتوفير الغطاء الأخلاقي للاحتكام إلى قوة السلاح والتصفية الدموية للمعارضين الإسلاميين خارج إطار القانون، في الفترة ما بين عامي (1990 1997).. فإذا كان ذلك يأتي بالاتساق مع العقيدة اليسارية، التي تؤمن ب"عسكرة" النضال المدني، والإجهاز على الخصم والمخالف السياسي، ب"العنف الثوري"، فإن المسألة في الحالة اليسارية المصرية لم تكن فقط بدافع هذه "العقيدة الفاشية"، وإنما كانت تُدار بمنطق حروب "أثرياء الحرب"، دفاعاً عن مصالحهم الشخصية، حيث تحلّوا ب"الشطارة" في التجارة بدماء ضحايا العنف الدامي بين الدولة والإسلاميين، وأحالوها إلى أوراق بنكنوت، وشيكات، وحسابات بالمصارف والبنوك.