واخيراً انتخب العماد إميل لحود رئيساً للبنان الشقيق بغالبية 118 صوتاً في المجلس النيابي من اصل 128. وبذلك، وبقفزة واحدة، انتقل الرجل من مقعده كقائد للجيش الى مقعده في القصر الجمهوري كرئيس للجمهورية عن طريق الصوت الانتخابي وليس عن طريق الطلقات والبيان الرقم واحد. ومنذ تلك اللحظة شطبت رتبته العسكرية واصبح اسمه "الرئيس إميل لحود" علماً بأن بعض الرؤساء إذا هبط على مقعد الرئاسة عن طريق الازاحة والقوة يفضل الاحتفاظ برتبته العسكرية، بل لا يتردد في منح نفسه ترقيات عسكرية لأنه يفضل ارتداء قبعتين في وقت واحد: قبعة الرئيس المدني وقبعة القائد العسكري! كان الله في عون الرئيس لحود، فقد ترك مسؤولياته البسيطة الواضحة التي تصدى لها وهو عماد الى مسؤولياته الصعبة الغامضة التي سيتصدى لها وهو رئيس. والغالبية التي حصل عليها الرئيس الحادي عشر للبنان غير مسبوقة، ما يدعو الى التأمل. ولولا موقف احدى الكتل التي حجبت اصواتها عن الرئيس بناء على ثوابت عقائدية، بألا يتولى عسكري رئاسة لبنان، لجاء اختياره بالاجماع. والموقف العقائدي لتلك الكتلة يحتاج الى تعليق. كلنا يعترف بأن لبنان يمر - شأنه شأن كل البلاد العربية - بأزمة مركبة متشعبة، حاول الكثيرون مواجهتها والتصدي لها، فنجحوا حيناً وفشلوا احيانا اخرى. وهذا أمر طبيعي في الممارسات السياسية التي تجري بمزيج من الهزائم والانتصارات. فالنتائج لا يمكن تقويمها دائما باللون الابيض او اللون الاسود، بل عن طريق اللون الرمادي الذي يمزج اللونين ببعضهما. حدث هذا في الادارة السياسية التي سبقت الرئيس لحود، وسيتكرر في ادارته، لأن الانتصارات الكاملة لم تتحقق في الماضي ولن تتحقق في المستقبل. ويبقى السؤال: لِمَ الرئيس إميل لحود الآن؟ وما معنى هذا الاختيار الذي حتم اضافة فقرة الى المادة 49 من الدستور التي كانت تحظر على القضاة او موظفي الفئة الاولى او ما يعادلها الترشيح للرئاسة فتسمح باستثناء القاعدة ولمرة واحدة، والمستثنى معروف؟ ثم ما معنى هذا الإجماع؟ لا شك في ان هذا الاجماع في المجلس النيابي يعبر، بالتالي، عن النتيجة نفسها في الشارع اللبناني. ومعنى ذلك ان الاحزاب اللبنانية لم تنل التقدير المناسب من القاعدة الشعبية، وان آراءها جعلت هذه القاعدة تتطلع الى ادارة أفضل، ولم تقف عند الزي الذي يرتديه البديل الذي يتطلع اليه الشعب. ان فشل الاحزاب في تقديم القادرين على تولي مثل هذه المسؤوليات الخطيرة ظاهرة عامة ليس في الساحة اللبنانية فحسب بل في الساحات العربية كلها ايضاً. ولعل هذه الظاهرة هي السبب الاساسي في تراجع الاداء السياسي وتواضع ما تؤديه الهيئات والمؤسسات في مجالات التقدم والارتقاء. وليس معنى كلامنا هذا الانحياز الى مؤسسة دون اخرى، لأنني أنقل ما أراه في الواقع بأمانة. هذه القضية الخطيرة تنعكس على قضية اخرى اكثر خطورة هي قضية انتقال السلطة في لبنان وفي غيره من البلاد العربية. فقد اقتضى الامر في لبنان تعديل الدستور حتى يتهيأ اللباس الديموقراطي لنقل السلطة بطريقة اعترض عليها الكثيرون. وقد حدث هذا ايضاً من قبل حينما تولى الرئيس فؤاد شهاب الرئاسة إبان الازمة العاصفة التي حدثت اثناء رئاسة كميل شمعون. اما في البلاد العربية الاخرى التي اتخذت الحكم الجمهوري نظاماً بحكم الشرعية الثورية او الدستورية، فإن معظمها لا يعترف بتداول السلطة التي لا تتم الا عبر نهاية دراماتيكية بفعل القدر او البشر. ان نشأة الاحزاب لا يمكن ان تتم بقرار، لأن الذي يمنح عليه ان يمنع. ولذلك نجد ان المؤسسات الحزبية في اسرائيل لها كلمتها على رغم ما فيها من سلبيات. فقد نشأت الاحزاب وأجنحتها العسكرية قبل انشاء الدولة، وتنافست وقتئذ على تشكيل الدولة من العدم، ثم على بنائها بعد ذلك على اساس ديموقراطي، كما يقولون. ولكن إنشاء الاحزاب في البلاد العربية تم بطرق اخرى واهداف مختلفة تجعل من الصعب التحامها الحقيقي بالقواعد الشعبية او قيامها بالتربية السياسية الحقيقية لأعضائها، ما يجعل الكثيرين من اصحاب الرأي والخبرة والكفاءة يعزفون عن الالتحاق بها. وحينئذ تضيق قاعدة الاختيار ما يدفع من يهمهم الامر الى البحث عن البدائل في مؤسسات اخرى من خارج المؤسسات الحزبية، مثل العماد إميل لحود الذي قضى عمره في المؤسسة العسكرية ما يضطره الى خلع زيه العسكري على عجل قبل ان يدخل قصر بعبدا في زيه المدني وسط إجماع شعبي غير مسبوق. وهذا يعني، وبصريح العبارة، عزوف الشعب عن واقع لا يرضى عنه مؤملاً في واقع افضل. والقضية الأخرى التي تتعلق باعتراض بعضهم على الرئيس لكونه "عسكرياً" تحتاج الى تعليق. وعلينا، بداية، ان نحدد معنى ثلاث كلمات ربما تضيّق فجوة الخلاف حول مدى جواز شغل العسكريين للمسؤوليات كافة في الدولة: العسكرة MILITARIZATION و العسكريTHE MILITARY و الحاكم العسكري THE MILITARY ADMINSTRATION . وقد اوردتُ هذا بالتفصيل في كتابي "العسكرة والامن في الشرق الاوسط وتأثيرهما على التنمية والديموقراطية". فالعسكرة لا تعني مجرد الناحية العسكرية ومجالات نقل السلاح والتكنولوجيا، ولكنها تعني اكثر من ذلك بكثير. اذ تعني سعي الدولة الى التوسع والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، ومدى تأثر الحياة في الدولة بالمؤسسة العسكرية عن طريق اجراءات ذات طابع عسكري تؤدي الى الابتعاد عن العملية الديموقراطية. كما تعني تضخم الصناعات الحربية بما يكفي التسليح الذاتي والتصدير الى الخارج، وان تصبح القوات المسلحة منافساً من اجل الحصول على السلطة، او تصبح قوة ضاغطة على قرارات القيادة السياسية، وان تتحول الامة الى محترفي حرب وعدوان لفرض مطامعها على غيرها بقوة السلاح، وتسخّر ثقافتها وسبلها في الحياة من اجل تحقيق هذه الاغراض العدوانية. وكما نرى فإن العسكرة هي مجرد سياسة او اتجاه للدولة التي تحتفظ بمؤسسة عسكرية ضخمة، وتؤمن بأن الكفاءة العسكرية هي المثل الأعلى الذي تسعى الى تحقيقه والتي تخضع كل الانشطة لخدمة الأهداف العسكرية. وعلى ذلك فهي تعني كل المجتمع الذي ينضوي تحت هذا الاتجاه ويباشر تلك الانشطة. وواضح ان ما قيل ينطبق على اسرائيل في منطقتنا، وربما على تركيا أيضاً. اما العسكري فهو عضو في المجتمع شأنه شأن الآخرين، له لباسه الخاص، مثل الاطباء والمحامين والعمال في المصانع والفلاحين في الحقول. وتحت الزي العسكري، بما يعبر عنه من كرامة وفخار، رجال عاديون لهم قيم وآمال ومصالح كغيرهم من اعضاء المجتمع. فالزيّ لا يمثل حماية او ضمانا للضعف الانساني. وفي مصر، على سبيل المثال، وقف اللواء احمد عرابي باشا، وهو رجل عسكري، في ميدان عابدين امام الخديوي توفيق باشا يصرخ في وجهه وهو على ظهر حصانه: "كيف تستعبدوننا وقد ولدتنا امهاتنا احراراً"، وطالب بالدستور. ووقف عبدالناصر بعد ذلك، وهو العسكري، في وجه الاستعمار وفي صف طبقات الشعب العاملة ويقول للناس: "ارفع رأسك يا اخي، فقد ولّى عصر الاستعباد". ثم نجد ونستون تشرشل، وهو العسكري ايضا، يرأس وزارة بلاده التي تعتبر اقدم الديموقراطيات الحديثة ليقود بريطانيا الى النصر. ودوايت ايزنهاور، قائد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، يرأس الولاياتالمتحدة لفترتين رئاسيتين متتاليتين. وشارل ديغول، الذي قاد حرب التحرير ضد النازي، يرأس الجمهورية الفرنسية بعد ذلك، بل ويعطي حق تقرير المصير لدول الفرانكوفون. وفي حال لبنان، وكما نشرت "الحياة" بتاريخ 16/10/1998 عن سيرته الذاتية، نجد أن الرئيس الجديد نجح في توحيد الجيش بعد انقساماته المعروفة، ثم في بنائه وحصر واجبه الاساسي في مقاتلة العدو وعدم المساس بالأمن تحت اي شعار، وحماية التجمعات الشعبية والسياسية وصون حرية المواطنين على اختلاف آرائهم ومواقفهم. وبهذا يبدأ الرئيس الجديد مسؤولياته في اطار النظام السياسي القائم الذي يكفل تمسكه بما قال. وهذا ينقلنا الى التحدث عن آخر "الثالوث"، اي الحكم العسكري، وهو حكم يمكن ان يديره مدني او عسكري، وفي ظله تعاني العدالة وحقوق المواطنين وسيادة القانون معاناة قليلة او كثيرة تتوقف على مزاج الحكم، ويصبح الحاكم مركز القوة الوحيد، اذ تتجمع في يده او تخضع لتوجيهاته كل السلطات. اما اذا قامت مراكز القوى الأخرى بواجباتها ومسؤولياتها، مثل المجالس النيابية والاحزاب والصحافة ووسائل الاعلام، فإنها تكسب الحكم شفافية مطلوبة. لأن الحاكم، بل ومنظمات الحكم ومؤسساته، نتاج طبيعي لتكوين الشعوب. والشعوب التي تتجاهل حقوقها وتتراجع عن مسؤولياتها لا تنتج الا مؤسسات تشابهها. فاختيار الممثل السيىء لا يمكن ان يتم الا عن طريق الجماعة السيئة والاصوات الجاهلة. وهنا يأتي دور الاحزاب التي تحاول بناء القواعد الشعبية عن طريق القدوة الصالحة والبرامج الواضحة والتثقيف الايجابي، ولكن ما العمل وفاقد الشيء لا يعطيه؟ إذن، فإن عزل العسكريين بقرار سياسي من المؤسسات الحزبية أمر يحتاج الى اعادة نظر، اذ في ظل استمراره تضيق قاعدة الاختيار ما يساعد على تفتيت الشعوب الى مدنيين وعسكريين، ويضيف اسباباً جديدة للتفتيت القائم. وليس معقولاً ان تستمر تلك المفاهيم القديمة في ظل التغيرات التي تحدث في تكوين المجتمع. لأن العسكرية هي مجرد تخصص لا يحرم الفرد من حقوقه المشروعة، طالما يطالبه المجتمع بالتزاماته ومسؤولياته الخطيرة. والعسكري مواطن لا يخيف او يرهب او يعتدي، الا اذا كان النظام القائم يسمح بذلك. وإن حدث ذلك فإنه يمكن للمدني ايضا ان يخيف ويرهب ويعتدي. وكلمة اخيرة عن "المؤسسة العسكرية" فهي مؤسسة، شأن غيرها من المؤسسات، يجب أن تُحدد واجباتها وتتوضح علاقاتها بغيرها من مؤسسات الدولة، وتُنظم علاقاتها مع القيادات السياسية التي تعمل تحت جناحها وبأوامر وتوجيهات منها. لأن القيادة السياسية - ليس مهماً ان تكون لمدني او عسكري - مسؤولة عن الامن القومي للبلاد، بينما القيادة العسكرية مسؤولة عن جزء من ذلك، وهو الأمن العسكري. وبذلك لا يمكن للجزء ان يتحكم في الكل، خصوصاً وان عَلَمَ الوطن يظلل الجميع بغض النظر عن ازيائهم وثقافاتهم ودياناتهم. اما إن سمح النظام السياسي القائم بإنفلات هذه المؤسسة فإنها تصبح جامحة خارج قبضة الدولة، وهذا غير مرغوب فيه. وليكن شعار الجميع، مدنيين وعسكريين، ان وافقوا على هذه المفاهيم، ان يعيشوا للوطن ويموتوا تحت العلم. * كاتب، وزير دفاع مصري ساب