لعل أهم ما يميز المجموعة القصصية "اشباح السراب" للكاتب السعودي عبدالله محمد الناصر دار الساقي 1998 - محاولتها المزج بين عالمين متناقضين: عالم الانسان القروي الآمن والمطمئن الذي لا ينغصه سوى مداهمة عجلات الحضارة الحديثة، وبعض الشرور القديمة التي لا يقوى على مواجهتها الجيل القروي الجديد. وعالم الإنسان المغترب، القلق، الدائم الحنين الى وطنه وناسه الذين تغرّب عنهم عنوة وربما طمعاً. بين هذين العالمين تتأرجح مجموعة "اشباح السراب"، البيئة القروية الصحراوية تأتي - غالباً - من الماضي، من خلال ذاكرة إنسان تم اقتلاعه منها، لذلك يكتوي بنار الحنين لها، بعقد مقارنات لا تنتهي بين براحها وصفائها، وبين ضيق وكدر وخوف البيئة التي يمارس فيها اغترابه الحاضر. قصة "الإيغال في ارتياد الأمكنة" تحاول الاقتراب من أحاسيس شاب عربي مغترب فى إحدى البلاد الغربية بغرض الدراسة، كل شيء - مهما بلغ صغره - في تلك البلاد يشعل جزوة حنينه الى تفصيله من تفاصيل قريته، ليس لتماثلها، ولكن للتناقض الفادح بينهما "حيطان بهو الفندق التي اجتمعت فيها كل الأحقاب هي التي استحضرت حقبة جده وصورته"، ولأن هذا الشاب مغترب، دائم التحديق في غربته، فقد كان طبيعياً في هذه القصة، ان يتآلف مع من هم على شاكلته، صاحبة الفندق التي تحيا غتراباً مختلفاً، اغتراب داخل وطنها وبين ذويها، تفرضه طبيعة ذلك المجتمع المادي الخالي من الدفء، فبمجرد أن مات زوجها، وقعت فريسة للتجاهل والوحدة، حتى ابنتها اهملتها تماماً، وانفردت بإدارة الفندق، مما اضطرها الى اقامة علاقة حميمة مع كلب صغير "ابنتي هيلين هي التي تدير الفندق لكنها جشعة وطماعة، انها تسرق حصيلة الفندق، وتبذرها على زوجها البغل، سوف اكتب نصف ثروتي ليوري الكلب نعم سوف أكتبها له، إنه يحبني كثيراً، إنه صديقي الوحيد. انظر لا أحد يجلس بجانبي". على منوال قصة "الإيغال في ارتياد الأمكنة" في رصدها لغربة الانسان العربي في البلاد الغربية، وجفاء الحياة في تلك البلاد - تأتي قصة "بيل العائلة"، وإن كانت تصف بشكل أكثر تفصيلاً صورة الحياة هناك. قرية عربية بأكملها تخرج لتوديع ابنها "سعد"، الذي سيغادرها لمواصلة تعليمه في الخارج، وهنا يسكن في بيت عائلة تتكون من ابن وزوجته ووالده، وكما في قصة "الإيغال.." يأنس "سعد" الى الشخصية الأقرب الى إغترابه - الأب المهمل "وكان سعد رغم ذلك يأنس بهذه الشخصية التي ملأت عليه غربته"، وفجأة يطلب الإبن من أبيه - بهدوء شديد - أن يترك البيت فوراً لأنه يحتاج الى تأجير حجرته!. في قصة "درس التعبير" نجد اغتراباً آخر، اغتراب الانسان العربي البسيط أمام الأفكار الفلسفية والسياسية الواردة عليه، والتي ربما لا تتناسب مع طبيعة حياته وثقافته، من خلال حكاية "صالح" الذي رسب ابنه في مادة التعبير، فلجأ إلى صديقه المثقف "حمد" لكي يساعده في البحث عن مدرس مناسب يعلم ابنه مادة التعبير، ولكنه ينشغل عنه في جدل ساخن مع صديقهما - المثقف أيضاً - "عبدالكريم"، حول موضوع سياسي لا يمت لرسوب ابنه في مادة التعبير بصلة، فعبدالكريم ما زال يبدي حماساً للأفكار الشيوعية رغم انهيار الاتحاد السوفياتي، وحمد يسخر منه، مؤكداً حماسته للغرب. أما قصة "اشباح السراب" التي اختصها الروائي الطيب صالح بثناء خاص في مقدمته لهذه المجموعة "أروع قصة في هذه المجموعة بل هي من أجمل القصص التي قرأتها باللغة العربية"، فهي تصور اغتراب الانسان العربي داخل أرضه، حين يعتمد على الآلة الحديثة فقط في التجوال داخل صحرائها الشاسعة، من خلال رجل تعطلت سيارته في منطقة رملية في جوف الصحراء، وحار في أمره تماماً، وبعد أن يئس من النجاة، وهيأ نفسه جيداً لمصافحة الموت بعنف، ظهر من جوف الظلام جمل أسود كما الشبح، لكي يعلّق طوق النجاة في عنقه. كأن هذه القصة تطمح الى تأكيد أن الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة، وأن الآلة الحديثة الغربية، بمفردها، ربما تكون قاصرة عن ارتياد الصحارى العربية!. في قصة "عصفور الغضب" نجد أن العصفور الضعيف الذي يصّر على الوقوف على سلك الإريل رغم اشتداد العاصفة - هو المعادل الموضوعي للمغترب الذي يصرّ على مواجهة رياح الغربة العاتية، رغم أنه يمكنه أن يختبيء في وطنه الآمن بين أنفاس أهله. ورد في مقدمة الطيب صالح لهذه المجموعة، أن قصتي "محيميد" و"الذيب": "يعمقان في نفس القارئ الإحساس بالخطر الذي يهدد الانسان والبيئة وهو خطر يجيئ من مصدر أبعد من محيط الجزيرة العربية، بل ومن محيط العالم العربي كله". وإن كنت اتفق معه في مسألة الخطر الخارجي في قصة "محيميد" لأن الخطر يأتي فيها من قبل سلاح وافد على البيئة العربية هو البندقية فإني قد اختلف معه في قصة "الذيب" لأن الخطر يأتي فيها من "الذئب" والذيب أصيل في البيئة القروية العربية، إذن هو خطر داخلي، يستفحل باغتراب الانسان القروي الحديث عن بيئته، وبالتالي عجزه عن مقاومة أخطارها الداخلية المتوارثة عكس أسلافه، فها هو والد بطل هذه القصة يسخر من عجز ابنه عن مواجهة خطر الذئب.